علمٌ وفكر

نقد الإيديولوجية الليبرالية (3)


آلان دي بينوا Alain de Benoist ..
وهم المجتمع الشفاف
تعتبر السياسة خطيرة في جوهرها عندما تتعلّق بممارسة السلطة «غير المنطقيّة»، وبالتالي تقتصر، في هذا المنظور، على ضمان الحقوق وإدارة المجتمع عن طريق الخبرة الفنية فحسب. ذلك هو توهّم «المجتمع الشفّاف» ورؤية مجتمع ينسجم بسرعة مع نفسه بعيداً عن أي مرجع رمزي أو وساطة ملموسة. يفترض أنّ على الدولة والمؤسسات، في مجتمع تحكمه السوق بشكل تام ويستند إلى مسلّمة الاكتفاء الذاتي «للمجتمع المدني»، على الأمد الطويل أن تنحلّ تماماً كما في المجتمعات غير الطبقية التي يصوّرها كارل ماركس. فضلاً عن ذلك، فإن منطق السوق، كما حدّده ألان كاييه(Alain Caillé)، هو جزء من عملية أوسع تميل نحو تحقيق المساواة وقابلية التبادل بين الناس عبر وسائل ديناميكية تُلاحظ في الاستخدام الحديث للعملة. فبحسب كاييه(Alain Caillé): «تكمن عملية التلاعب في الأيديولوجية الليبرالية في مماهاة دولة القانون نسبة إلى الدولة التجارية من حيث اقتصار دورها على كونها نابعة من السوق. وبالتالي، فإن المطالبة بحرية الأفراد لاختيار أهدافهم الخاصة في الواقع تتحوّل إلى واجب تحقيق أهداف تجارية فحسب» [1].
المفارقة هي أن الليبراليين لا ينفكون يؤكدون أن السوق تزيد من فرص الفرد في تحقيق أهدافه الخاصة، في الوقت الذي يشددون فيه على أن هذه الأهداف لا يمكن تحديدها مقدماً، وكذلك، لا يمكن لأحد تحديدها على نحو أفضل من الفرد نفسه. ولكن كيف يمكن للسوق أن يحقّق الأفضل بينما هذا الأفضل غير معروف؟ في الواقع، يمكن التأكيد أن السوق يضاعف التطلعات الفردية أكثر بكثير من إعطاء الفرد الوسائل اللازمة لتحقيقها، وبالتالي فإن ذلك لا يبعث على الرضا وإنما على الاستياء بحسب المصطلح التوكوفيلي [2].
علاوة على ذلك، إذا اعتبرنا أنّ الفرد هو أفضل من يعرف مصالحه الشخصية، فما الذي يلزمه في هذه الحالة باحترام المبدإ الوحيد المتمثل بالمبادلة؟ بحسب المذهب الليبرالي، لم يعد السلوك الأخلاقي يستند إلى الشعور بالواجب أو إلى القانون الأخلاقي، وإنما إلى المصلحة الذاتية الفضلى. فعندما أمتنع عن انتهاك حريّة الآخرين، بذلك أثنيهم عن انتهاك حريّتي. الخوف من الشرطة يتكفل بالباقي. لكن إن كنت واثقاً بأنّني لن أواجه عقوبةً صارمة عند انتهاك القانون، وإذا كانت المبادلة لا تعنيني. فما الذي يمنعني من انتهاك القواعد أو القوانين؟ في الحقيقة، لا شيء. في المقابل، فإن الاهتمام بمصالحي الشخصية فحسب يحثني على عدم انتهاك القوانين قدر الإمكان.
يقول آدم سميث، بصراحة، في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية» (1759): «حتى في غياب الحب المتبادل والعاطفة بين مختلف أفراد العائلة، ليس بالضرورة أن ينحلّ المجتمع وإن كان أقلّ سعادة ورضىً. قد يظل المجتمع قائماً بين مختلف الناس كما بين مختلف التجّار انطلاقاً من نفعيته بعيداً عن أي حب متبادل أو عاطفة. وحتى لو لم يكن الأفراد يملكون أدنى واجب تجاه أحدهم الآخر أو يشعرون بالامتنان تجاهه، يبقى المجتمع قادراً على الاستمرار بفضل تبادل الخدمات وفقاً لقيمة متّفق عليها» [3]. معنى هذه الفقرة واضح. فالمجتمع يجيد عمليّة الاقتصاد، وهي عبارة أساسية، في جميع أشكال النشاطات الاجتماعية العضوية، من دون أن يخسر صورته كمجتمع. إذ يكفيه أن يصبح مجتمع تجّار حيث يندمج الرابط الاجتماعي مع الشعور بـ «منفعته» و«بالتبادل المثمر للخدمات». لذلك، من أجل أن يكون المرء إنساناً، يكفي المشاركة في المبادلات التجارية، والتصرف بحريّة بحقه الشخصي لتحقيق أقصى حدّ من مصلحته الفضلى. يقول سميث بالتأكيد أن مجتمعاً كهذا سيكون «أقلّ سعادة ورضى»، ولكن سرعان ما يصبح هذا الفارق الدقيق النسيان. قد يدعو ذلك إلى التساؤل أيضاً عمّا إذا كانت السبيل الوحيدة ليعبّر المرء عن إنسانيته، بالنسبة إلى بعض الليبراليين، هو بالتصرّف كتاجر، أي كأولئك الذين كانوا يعتبرون في مرتبة دنيا، ليس لأنه لم يكن يُنْظَر إليهم كأشخاص ذوي منفعة أو حتى ضروريين، وإنما بكل بساطة لأنهم نافعون ولكن رؤيتهم للعالم محدودة بالنفعية فحسب. يدفع ذلك حتماً إلى طرح السؤال حول مكانة أولئك الذين لا يتصرفون على هذا النحو، إما بسبب افتقارهم للرغبة أو للأساليب: فهل لا يزالون بشراً؟

في الواقع، فرض منطق السوق نفسه تدريجيّاً بدءاً من نهاية العصور الوسطى حيث بدأت التجارة الخارجية والمحلية تتوحّد داخل الأسواق المحلية في ظلّ زخم الدول الأمم الناشئة التوّاقة إلى جعل المقايضات غير التجارية بين المجتمعات مربحة بهدف فرض الضرائب. وهكذا، بعيداً عن كونها واقعاً عالميّاً، تعتبر السوق ظاهرة محدّدة بدقة من حيث المكان والزمان. وهذه الظاهرة لم تظهر بشكل «عفوي»، وإنما كانت مفروضة. ففي فرنسا، على وجه الخصوص، وكذلك في أسبانيا، لم تتأسّس السوق رغماً عن الدولة الأمّة، وإنما بفضلها. تولد الدولة والسوق معاً، وتتقدمان بالوتيرة عينها، فالأولى تشكّل الثانية في الوقت نفسه الذي تتأسّس هي نفسُها. يقول ألان كاييه: «على أقل تقدير، يستحسن عدم النظر إلى السوق والدولة ككيانين مختلفين كليّاً، وإنما كوجهين لعملة واحدة. على مر التاريخ، أنشئت الأسواق المحليّة والدول ـ الأمم على نفس الوتيرة، والواحدة تكمّل الأخرى» [4].
تتطوّر الاثنتان معاً في الاتّجاه نفسه. فالسوق تعزّز حركة الدولة الأمّة التي، من أجل بسط سلطتها، لا يسعها التوقّف عن التدمير المنهجي لجميع أشكال التنشئة الاجتماعية المتوسّطة التي كانت تشكّل في العالم الإقطاعي أنسجة أساسية مستقلّة نسبيّاً، تتكوّن من العشائر الأسرية، والمجتمعات القروية، والأخويات، والحرف، وغيرها. واصلت الطبقة البرجوازية، ومعها الليبرالية الوليدة، عملية تفكيك المجتمع هذه وزادت من حدّتها نظراً إلى أن تحرّر الفرد الذي تطلّعت إليه يتطلب التخلّص من جميع أشكال التضامن اللاإرادي أو الاتّكالية التي تمثل عقبات عدّة في وجه توسّع السوق. في سياق متّصل، يقول بيار روزانفالون: «من هذا المنظور، تعكس الدولة ـ الأمة والسوق التنشئة الاجتماعية عينها للأفراد في المكان. ولا يمكن تصوّرهم إلاّ في إطار مجتمع ممزّق حيث يُنْظَر إلى الفرد ككيان مستقل بذاته. وهكذا لا يمكن للدولة ـ الأمّة والسوق، بمعناهما الاجتماعي والاقتصادي، الاستمرار حيث يتواجد المجتمع كوحدة اجتماعية شاملة» [5].
وبالتالي، فإن الشكل الجديد للمجتمع الذي برز نتيجة أزمة العصور الوسطى تشكّل تدريجيّاً انطلاقاً من الفرد، ومبادئه الأخلاقية والسياسية، ومصالحِه، مُحطِماً شيئاً فشيئاً تماسك الفضاءات السياسية والاقتصادية والقانونية وحتى اللغوية التي دعمها المجتمع القديم. مع ذلك، ظلّ الإثنان (الدولة والمجتمع المدني) موّحدّين، في القرن السابع عشر: إنّ عبارة «المجتمع المدني» كانت لا تزال مرادفة للمجتمع المنظَّم سياسيّاً. ثم ما لبث أن ظهر الاختلاف في بداية القرن الثامن عشر، لا سيما مع لوك الذي أعاد تعريف «المجتمع المدني» على أنه دائرة الأملاك والتبادلات، في حين أن الدولة أو «المجتمع السياسي» وُجِد مُذّاك الحين لحماية المصالح الاقتصادية فحسب. يؤدي هذا الاختلاف الذي يقوم على إنشاء دائرة مستقلة ذاتيّاً للإنتاج والتبادل، والذي يعكس تخصص الأدوار والوظائف التي تتّسم بها الدولة الحديثة إمّا إلى تثمين المجتمع السياسي نتيجة العقد الاجتماعي، وفق رؤية لوك، أو إلى تعظيم المجتمع المدني على أساس التعديل التلقائي للمصالح، وفق رؤية ماندفيل [6] (Mandeville) أو سميث. يفتح المجتمع المدني، باعتباره دائرة مستقلة، المجال أمام الانتشار الجامح لمنطق المصالح الاقتصادي. ونتيجة ظهور السوق، يقول كارل بولاني(Karl Polanyi): «يُدار المجتمع كتابع للسوق. وبدل أن يكون الاقتصاد هو المندمج في العلاقات الاجتماعية، فإن العلاقات الاجتماعية هي التي تكون مندمجة في العلاقات الاقتصادية» [7]. ذلك هو المعنى الحقيقي للثورة البرجوازية.
يتخذ المجتمع، في الوقت عينه، شكل نظام موضوعي، مختلف عن النظام الطبيعي أو الكوني، يتطابق والمنطق العالمي الذي يُفترض بالفرد أن يكون قادراً على التواصل معه بشكل مباشر. تتبلور موضعة المجتمع التاريخي بدايةً في المبادئ السياسية للحقوق التي يمكن تتبّع تطوّرها انطلاقاً من زمن جان بودين(Jean Bodin) حتى عصر التنوير. في موازاة ذلك، يظهر الاقتصاد السياسي كعلم مجتمع عام جديد يُنظر إليه كعملية تنمية ديناميكية مرادفة للتقدّم. وبالتالي يصبح المجتمع خاضعاً لمعرفة علمية محدّدة. يجب أن يخضع العالَم الاجتماعي لعدد من القوانين، إلى الحد الذي يحقق فيه نمطاً وجودياً عقلانيّاً على ما يُفترض، وتخضع ممارساته لعقلانية أداتيّة باعتبارها مبدأ التنظيم الأمثل. لكن نتيجة هذه الموضعة، تتحوّل وحدة المجتمع، تماماً كما رمزيته، إلى إشكالية بارزة، لا سيما حين تؤدي خصخصة الانتماءات والعلاقات فوراً إلى تجزئة الجسم الاجتماعي، وتَضَاعُفِ المصالح الخاصة المتضاربة، وبداية التحرّر من المأسسة والانخراطِ في المجتمع. ثم ما تلبث أن تظهر تناقضات جديدة، ليس بين المجتمع البرجوازي وبقايا الحكم الأرستقراطي فحسب، وإنما أيضاً داخل المجتمع البرجوازي، كالصراع الطبقي على سبيل المثال.
ــــــــــــــــــــــ

[1] «روائع ومآسي العلوم الاجتماعية: بداية ميثولوجيا» Splendeurs et misères des sciences sociales. Esquisse d’une mythologie، دروز، جنيف 1986، ص. 347.
[2] نسبة الى «دي توكفيل De Tocqueville.
[3] «نظرية العواطف الأخلاقية، The Theory of Moral Sentiments ، منشورات كلارندون، أوكسفورد 1976، ص86.
[4] مرجع مذكور، ص. 333ـ334
[5] مرجع مذكور، ص. 124
[6] «أمثولة النحل» fable des abeilles، 1714.
[7] «التحوّل الكبير: حول الأصول السياسية والاقتصادية لعصرنا»،La grande transformation. Aux origines politiques et économiques de notre temps، غاليمار، 1983، ص. 88.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة