مقالات

هل المجتمع أصيل في وجوده أم لا ؟ (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري ..

المجتمع ليس إلاّ مجموعة من الأفراد ، فلولا الأفراد لم يتحقق المجتمع . ولابد من التحقيق عن كيفية هذا التركيب والعلاقة بين الفرد والمجتمع للإجابة عن السؤال . وبهذا الصدد يمكن إبراز عدّة نظريات :

أ ـ إنّ تركيب المجتمع من الأفراد تركيب اعتباري وليس واقعياً .

فالمركّب الواقعي إنّما يتحقق إذا كانت هناك مجموعة من الأُمور تؤثّر كل منها في الآخر وتتأثّر كل منها من الآخر ، ويتولّد من هذا التأثير والتأثّر والتفاعل ، حادث جديد له ميزاته وخصائصه ، كما نجد ذلك في التركيبات الكيمياوية  فيتفاعل غاز الأوكسجين وغاز الهيدروجين يتولّد حادث جديد أو ماهيّة جديدة هو الماء ، وله خصائص وآثار لا توجد في الغازين المذكورين ؛ إذن فالتركيب الحقيقي يستلزم أن تفقد الأجزاء ـ التي تشكّل المركّب بعد التركيب والاندماج ـ خصائصها وآثارها فتنحل في وجود آخر هو المركّب .

وهذه الميزة ليست في تركيب المجتمع من الأفراد ، فأفراد الإنسان لا يندمجون مع البعض في ( كل ) هو المجتمع . إذن فالمجتمع ليس له وجود أصيل عيني حقيقي ، بل وجوده اعتباري وانتزاعي ، والأصيل هنا هو الفرد . وحياة الإنسان في المجتمع وإن كانت حياة اجتماعية إلاّ أنّ الأفراد لا يشكّلون مع بعض مركّباً حقيقياً بعنوان المجتمع .

ب ـ إنّ المجتمع وإن لم يكن مركّباً حقيقياً على غرار المركّبات الطبيعية إلاّ أنّه مركّب صناعي ، وهو أيضاً من قبيل المركّبات الحقيقية .

فهو نظير تركّب السيارة ـ مثلاً ـ فإنّ أجزاءها مترابطة أيضاً . والفرق بينها وبين المركّب الطبيعي أنّ الأجزاء في المركّب الطبيعي تفقد هويّتها وتنحل في الكل ، وتبعا لذلك فقد تفقد الاستقلال في التأثير بالضرورة.

ولكنّ المركبات الصناعية ليست كذلك ، فالأجزاء لا تفقد هويّتها ، ولكن لا تستقل في التأثير فهي مترابطة بوجه خاص وآثارها أيضاً مترابطة ، إلاّ أنّ ما يبرز من أثر المجموع ليس هو بعينه مجموع آثار الأجزاء كلاًّ على حدة . فالسيارة ـ مثلاً ـ تنقل الأشخاص والأمتعة بسرعة معيّنة إلى مكان ما في حين أنّ هذا الأثر ليس لجزء خاص من السيارة بعينه ، ولا هو مجموع آثار الأجزاء لو كانت تؤثّر مستقلاً دون ارتباط . ففي تركيب السيارة ، نجد الارتباط والمشاركة في التأثير بين الأجزاء على سبيل الجبر ، ولكنّ هويّة الأجزاء لا تنحل في الكل ، فليس للكل المركّب وجود مستقل عن وجودات الأجزاء ، بل هو عبارة عن مجموع الأجزاء مضافاً إلى الربط المخصوص فيما بينها .

وهكذا المجتمع ، فهو مركّب من مجامع ومؤسّسات أصلية وفرعية ، وهذه المجامع والأفراد كلها مرتبطة مع بعض ، والتغيّر الطارئ على كل مجمع يؤثّر على سائر المجامع ، سواء كان ذلك المجمع ثقافياً أم دينياً أم اقتصادياً أم قضائياً أو تربوياً . والحياة الاجتماعية ظاهرة قائمة بالمجتمع ككل ، من دون أن يفقد الأفراد في المجتمع أو في كل مجمع بخصوصه هويّته الشخصية .

ج ـ إنّ المجتمع مركّب حقيقي من نوع المركّبات الطبيعية ، إلاّ أنّه يتركّب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر ، فهو تركيب من الثقافات ، كما أنّ العناصر المادية بالتفاعل مع بعض تمهّد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة ، وبالعبارة الفلسفية أجزاء المادة بالفعل والانفعال والكسر والانكسار ، فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة ويحدث المركّب الجديد ، والأجزاء تستمر في وجودها ولكن بصورة جديدة وماهيّة حادثة  كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق المجتمع وكل منهم يحمل مواهبه الفطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة ، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسيّاتهم وتتحقق نفس جديدة يُعبّر عنها بالروح الجماعية ، فهذا التركيب تركيب طبيعي من جهة أنّ أجزاءه تؤثّر وتتأثّر كل من الآخر تأثّراً عينياً خارجياً ، يوجب التغيير في الأجزاء وكسب هويّة جديدة ، ولكنّه يتميز عن سائر المركّبات الطبيعية في أنّ الكل والمركّب هنا ليس موجوداً واقعياً له هويّته الخاصة ، بخلاف تلك المركّبات الطبيعية فإنّ ذات الأجزاء تتبدّل بعد التركيب من جرّاء التفاعل مع بعض ويتحقق المركّب كآمر واقعي موحّد . فالموجود حينئذٍ هو أمر واحد ذو أجزاء وقد تبدّلت كثرة الأجزاء إلى وحدة الكل . وأمّا تركّب المجتمع من الأفراد فهو تركيب واقعي ؛ لأنّ التفاعل الواقعي يتحقق بين الأفراد ـ وهم أجزاء المجتمع ـ فتتبدل الصورة الفردية إلى صورة جماعية ، إلاّ أنّ كثرة الأفراد لا تتبدل حقيقة إلى وحدة الكل ، فليس هنا واحد حقيقي تنحل فيه الكثرات ، بل الكل هنا موجود اعتباري انتزاعي هو مجموع الأفراد .

د ـ إنّ تركيب المجتمع تركيب حقيقي فوق التركيبات الطبيعية ، فإنّ الأجزاء في المركّب الطبيعي لها ذوات وآثار حقيقية قبل التركيب ، وإنّما تمهّد الطريق لتحقق ظاهرة جديدة بالتفاعل والتأثّر فيما بينها .

ولكنّ الإنسان قبل الاندراج في سلك المجتمع ليست له هوية إنسانية ، بل هو استعداد محض له قابلية التلبّس بالروح الجماعية . والإنسان مع قطع النظر عن هذه الروح حيوان محض له استعداد الإنسانية ، فهو إنسان بالقوّة . وإنّما تبرز إنسانية الإنسان ، والشعور النفسي بالروح الإنسانية ، وفعليّة الفكر الإنساني ، والعواطف البشرية ، وكل مميّزات الإنسان من أحاسيس وميول وأفكار وعقائد وعواطف ( إنّما تبرز ) تحت إشعاع الروح الجماعية ، وهي التي تملأ الإناء الفارغ البشري ، وتجعل من الشخص شخصية إنسانية . والروح الجماعية تلازم الإنسان ولا تفارقه أبداً ، وتتجلّى في ضمن الآثار الخلقية والدينية والعلمية والفلسفية والأدبية ، فالتفاعل والتأثير والتأثّر الروحي والثقافي بين الأفراد إنّما يتم بسببها ولا تتحقق قبلها . إذن فالوضع الاجتماعي مقدّم على الخصائص الفردية ، بخلاف النظرية السابقة ، حيث كان للإنسان قبل الدخول في السلك الاجتماعي شؤون نفسية ، وكانت الحقائق الاجتماعية تأتي في مرحلة متأخّرة عن الخصائص النفسية للأفراد . وأمّا بناء على هذه النظرية فالوجود الاجتماعي للإنسان والحقائق الاجتماعية شرط أساسي في تكوين الشؤون النفسية للفرد ، وفي إمكان دراسة شؤونه النفسية .

فالنظرية الأُولى متمحّضة في أصالة الفرد ؛ إذ بناء عليها ليس للمجتمع وجود حقيقي ولا قانون ولا سنةٌ ولا مصير ولا دراسة مستقلّة . والوجود الحقيقي إنّما هو للفرد ، وهو موضوع الدراسة ، ومصير كل فرد مرتبط به وبشؤونه ومستقل عن مصير الآخرين .

والنظرية الثانية أيضاً تستند إلى أصالة الفرد ، فلا تذعن بوجود حقيقي للمجتمع ككل ، ولا بتركيب واقعي بين الأفراد كمجتمع ، ولكنّها تقول بوجود ارتباط أصيل وواقعي بين الأفراد نظير الرابطة الفيزيائية بين أجزاء السيارة . وبناء على هذه النظرية ليس للمجتمع وجود مستقل عن وجودات الأفراد ، وليس في الواقع الخارجي حقيقة سوى حقائق الأفراد ، إلاّ أنّهم يرتبطون مع بعض كما ترتبط أجزاء السيارة أو أي آلة أو مصنع آخر . وترتبط آثارهم وحركاتهم على غرار الروابط بين العلل والمعلولات الميكانيكية ؛ وعليه فللأفراد مصير مشترك ، وللمجتمع ـ أي هذه المجموعة المرتبطة الأجزاء ـ تعريف واحدٌّ خاص بلحاظ وجود الرابطة العلّيّة والمعلولية الميكانيكية بين أجزائه ، فتعريفه يختلف عن تعريف الأجزاء .

مواقيت الصلاة