مقالات

موقف الإسلام من العولمة في المجال الثقافي والسياسي (1)

 

الشيخ محمد مهدي شمس الدين ..

مقدمة:

أ- العولمة اصطلاحاً ومفهوماً:

يعبّر مصطلح العولمة الذي تداول المفكرون والباحثون استخدامه منذ عقد من السنين (منذ نهاية الثمانينات)؛ عن تحول عالمي في رؤية كثير من المرتكزات في مجال القيم الأخلاقية والاقتصاد والسياسة، التي كانت سائدة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية بين البشر. كما ويستبطن هذا المفهوم رؤية جديدة حول الهوية، هوية المجموعة وهوية الجماعة وهوية القوم. وحول شخصية المجتمع وشخصية الدولة على المستويات الوطنية والقومية بالنسبة إلى المجتمعات التي تعاني من ضعف في سيادتها أو في اقتصادها أو في قوتها، أي لتلك المجتمعات التي تعتبر مغلوبة على أمرها في مجال المنافسة على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعلمية والثقافية وما إلى ذلك.

هذه الظاهرة (العولمة) تبدو للناظر وكأنها كائن خارق الإمكانات، خارق القوى، يتهيأ لافتراس كل ما يقع بين يديه على المستوى العالمي من جماعات ودول وشعوب. وتأتي في مقدمة الفرائس التي تستشعر الخطر أو التي ينبغي أن تستشعر الخطر الأمة العربية والأمة الإسلامية، لأن في تقديرنا أنه كلما كان مجتمع ما أو أمة ما تتمتع بمضمون ثقافي يمكن تطويره وتثويره ليعيد صياغة هذا المجتمع وهذه الأمة، وليكون له دور فعال وأصيل على المستوى العالمي، ولا يكون مجرد تابع – كلما كان المجتمع ما وأمة ما من هذا القبيل – فإنه يكون فريسة نموذجية لهذا الكائن (العولمة) الذي يهدف إلى أن يلغي كل الأغيار، ويدمج كل التنوعات في صيغته الخاصة، وهو ما يمكنه من أن يمتص ويستحوذ على كل القدرات في الطبيعة وفي الإنسان لمصلحته الخاصة، لمصلحة قوته ومتعته واستهلاكه، بل على جميع المستويات المعنوية والمادية.

هل يعبر هذا الفهم عن حقيقة موضوعية؟ هل غدت العولمة في حقيقة حاسمة في الإجتماع البشري، أو أنها لا تزال افتراضاً يمكن أن يتحقق ويمكن أن لا يتحقق؟

نحن لا نرى أنها مجرد وهم كما لا نرى أنها حقيقة غالبة وراهنة، هي شيء في دور التكوين قطع شوطاً يعتد به حتى الآن في إبراز معالم ذاته. نرى ذلك في السياسات الاقتصادية، ونرى ذلك في السياسات الأمنية ونرى ذلك في الظاهرة الثقافية (في المجال الثقافي).إذن العولمة هي شيء غير مكتمل الآن ولكنه ليس ساكناً، بل ينمو.

نحن في مواجهة مشروع استحواذ جديد يتكون، وقد مر في مراحل متنوعة منذ القدم، ولكنه يتمتع الآن بأقصى قدراته، وذلك لما أتاحه العلم الحديث في جميع حقوله من قدرات خارقة لمن يمتلك ناصية القوة والنفوذ. ومن هنا فإن الحديث عن هذا المشروع والتهيؤ له من قبلنا عرباً ومسلمين يعتبر من حسن الفطن، لأن استباق الأخطار أفضل من مواجهتها بعد أن تقع، استباق الخطر بالتهيؤ له، والتحكم ضده، وتهيئة الوسائل المناسبة لمواجهته ومكافحته، هي خير من عدم المبالاة.

 

ب- العالمية والنظام العالمي:

وقبل الدخول في بحث مضمون العولمة وتحديد الموقف منه، نرى من المناسب التمييز بينه وبين مصطلحين آخرين:أحدهما مصطلح النظام العالمي، والثاني مصطلح العالمية.

أما مصطلح النظام العالمي فيبدو أنه لغة للتعبير عن طموح نحو إيجاد نظام سياسي عالمي تهميمن فيه أو تفرض فيه قوة وحيدة أو تحالف قوى، هيمنة سياسية إنطلاقاً من مصالحها المادية ونظرتها الفلسفية (أساساً من حيث مصالحها المادية) على أكبر قدر ممكن من دول وشعوب العالم.

لقد شهد العالم عدة أنظمة عالمية شمولية منذ العهد الروماني تمثل فيما سمي (العالم الروماني، والسلام الروماني) وتمظهر بعد ذلك في عدة صيغ إلى أن ظهر الإسلام وتكونت الدولة الإسلامية التي تطورت إلى نظام عالمي كان جديداً في حينه، وبعد ذلك جاءت أنظمة عالمية أخرى تتابعت إلى العصر الحديث حيث شهد هذا العصر عدة تجارب كان آخرها ما سمي النظام العالمي الجديد؛ الذي برز بوضوح بعد انهيار الإتحاد الإسلامي السوفييتي.

هذا النظام العالمي هو آلية لممارسة سياسة للتأثير، تنطلق وترتكز على المصالح التي تسعى إليها أو تدافع عنها مجموعة القوى العظمى. في مرحلتنا الراهنة تمحورت هذه القوى العظمى في الولايات المتحدة الأمريكية وليش ثمة ضرورة تدعو إلى أن يكون لهذا النظام علاقة بالثقافة والحضارة. هو يمكن أن يتعايش ويتفاعل مع ثقافات متنوعة ومختلفة ومع أنماط حضارية مختلفة. إن جوهره هو ممارسة السلطة لمصلحة نظام المصالح الغالب.

أما العالمية، فهي تعبير عن مجال قد يكون بعيداً عم السياسة والإقتصاد، بل هي تعبير عن النوع الثقافي. فالعالمية تعني الاعتراف بالأدوار، بحيث يكون العالم منفتحاً على بعضه مع الاحتفاظ بتنوعاته، ولقد كانت هذه هي السمة البارزة في الحضارة والثقافة والإيمان الإسلامي بشكل خاص:الاعتراف بالآخرين، احترام خصوصيات الآخرين. وهو الأمر الذي أنتج حالة الحوار بين الثقافات والحضارات والدول والشعوب والمصالح والأديان وما إلى ذلك.

إذن العالمية لا تعني الهيمنة الاقتصادية كما لا تعني في الوقت نفسه أيضاً الهيمنة الثقافية، وإنما تعني التنوع وانفتاح الثقافة الخاصة على الثقافات الأخرى، تعني التعارف وفقاً للمبدأ القرآني:

"ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..".

 

ج- مضمون العولمة:

أما العولمة،كما عرفت وكما يبدو من تطبيقاتها، فهي تقوم على اجتياح للثقافات الأخرى ومحوها محواً كاملاً، وإذا كان لهذه الثقافات من بقاء فسيكون بقاء فلكلورياً لمجرد الاستمتاع وليس لتنمية وإخصاب الذات الإنسانية، إنها سيطرة القوى الكبرى والغالبة، وهي إلى جانب السيطرة الاقتصادية والسياسية تمارس السيطرة الثقافية وتستخدم كل تنوع ثقافي في سبيل التنكيل بالآخرين وإرهاب الآخرين لأجل استتباعهم ثقافياً.

إن العولمة بالصيغة الأمريكية التي يحاولون فرضها على العالم لا تمثل تحدياً بقدر ما تمثل غزواً، فهي مشروع يتسلم واقع الهيمنة على السياسة والاقتصاد من جهة، وبالقدرة غير المسبوقة في توجيه الإعلام من جهة أخرى، كما أنها تتسلح أيضاً بالقدرة على التشريع على المستوى الدولي.

ولذا فإن العولمة لا تمثل في نظرنا تحدياً، بل تمثل غزواً وهذا الغزو لابد من مقاومته.

إننا نعتقد أن دعاة العولمة يهدفون إلى السيطرة الاقتصادية تحت شعار دعوى أنها تؤدي إلى ارتفاع مستوى الحياة للدول. والى أتاحة توزيع أفضل للاقتصاد.كما يهدفون إلى السيطرة الثقافية التي تؤدي إلى تشويه أو تذويب الشخصية الخاصة.

ومن جهة أخرى فإن العولمة تؤدي إلى تشجيع عوامل التفتت والانقسام داخل المجتمعات الأخرى، وإلى إثارة التناقضات العرقية والدينية والمذهبية بين الأقوام داخل المجتمعات، وتؤدي بهذه المجتمعات إلى حروب وتوترات داخلية تتيح الاستيلاء عليها، والهيمنة عليها وعلى اقتصادها، أنها تتيح تفتيت البنى الثقافية والأخلاقية وأنظمة القيم داخل مجتمع وداخل كل حضارة لمصلحة تيار الحداثة، كما يتجاوز فيما يسمى الحضارة الأمريكية والثقافة الأمريكية ونمط الحياة والعيش الأمريكي.

هذا يفرض علينا، يفرض على كل شعب،كل حضارة،كل ثقافة، مسؤوليات تحصين الذات من جهة والانفتاح من جهة أخرى:تحصين الذات بما لا يعني الانغلاق، والانفتاح بما لا يعني الذوبان.

بالنسبة لنا في العالم العربي والإسلامي فإن هذا يفرض مسؤوليات تربوية في الأسرة وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الحياة العامة. وهي مسؤوليات أكبر وأثقل ضرورة وإلحاحاً مما كانت عليه الحال قبل نشوء الموجة الثقافية والتيار الثقافي الماحق والساحق الذي يتدفق بواسطة الإنترنت والتلفزيون والسينما والصحافة وما إلى ذلك تحت عنوان الحداثة.

 

د- الحداثة والعولمة:

إن العناصر الفكرية الفلسفية المكونة للحداثة ثلاثة:

العنصر الأول – الحداثة تقوم على الرؤية الدنيوية المرتكزة على أن العالم الموضوعي الخارجي هو الحقيقة، وهذه الرؤية تنفي أي تدخلات غيبية ما وراثية في وجود العالم أو في صيرورة العالم (العلمانية الكاملة).

وفي هذه الحالة فإن عمل الإنسان في المجتمع والطبيعة، وعمل المجتمع في نفسه يهدف إلى تحقيق غايات ومقاصد من سنخ الموضوع الذي نحيا فيه، أي أنه يهدف إلى تحقيق أهداف ومقاصد مادية.

تتعلق بالسيطرة على الطبيعة وبتحسين حالة العيش، في مقابل النظرة الإسلامية أو النظرة الدينية عموماً التي ترتكز على أن هدف الحياة والخلق، هدف الوجود يتجاوز العالم المادي إلى تحقيق غايات ومقاصد روحية في كينونة الإنسان وفي شخصية الإنسان وفي مصيره الأخروي.

العنصر الثاني – الذي ترتكز عليه حداثة هو أنها تقوم على الفرد، تقوم على أن محور الوجود، محور العمل، محور النشاطات هو الفرد. التأكيد على فردية الإنسان. وعلى هذا الأساس فهي تدعو إلى إعطاء كل الفرص لنمو الفرد وازدهار الفرد وسعادة الفرد. وهذا يبرز مقصداً أساسياً وهو إعطاء أوسع الحريات للفرد في مقابل الواجب.

يسيطر حينئذ مبدأ الحرية مقابل مبدأ الواجب.وفي هذه الحالة يكون النظام الأمثل هو الذي يعطي أكبر قدر من الحرية للفرد على نفسه وعلى الطبيعة وعلى تصرفاته، في مقابل أقل قدر من الالتزامات والواجبات تجاه الغير.

العنصر الثالث – تقوم الحداثة على أن المرجعية في فهم الأشياء وفي الحكم على الأشياء، في فهم التصرفات وفي الحكم على التصرفات، على صحتها وخطئها هو العقل الوضعي، العقل الذي يرتكز البراغماتية (النظرة النفعية) المحضة وعلى المادية المحضة، وهو ليس العقل الذي يدرك به الخير والشر والذي يقوم على مبدأ أخلاقي (العقل العملي بالاصطلاح الفلسفي).

إذن؛ المرجعية هي للعقل الوضعي المادي النفعي، في مقابل مرجعية أخرى أي مرجعية العقل بالمعنى الذي يدرك الخير والشر ويدرك الحسن والقبح، وإلى جانب مرجعية الوحي.

هذه العناصر الثلاثة هي التي تقوم عليها فكرة الحداثة أو فكرة العلمانية المطلقة.

وهذه العناصر الثلاثة حين تشكل أساساً لثقافة الفرد، فإنها تنتج هذا الفرد الذي نرى نماذجه في الحياة الغربية المعاصرة، كما نلاحظ حينما يطبق على الدولة، تلك الدولة التي تحاول أن تتخلص من كل التزام ديني، وكل التزام اجتماعي وأخلاقي، وكل التزام يقوم على الأخلاق وعلى الغيب وعلى مرجعية الدين. بحيث تكون الدولة مادية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سلطة الدولة تتقلص وتكون سلطة هشة، باعتبار أن الاتجاه الفردي هو الذي يحكمها، وأن مبدأ الحرية بالتالي هو الذي يحكمها، ويأخذ الأفراد منها أكبر مساحة من الإستقلالية، وتكون الدولة مجرد منسق ومديراً للأنشطة ولا تشكل أية قيادة على الإطلاق. فالدولة العصرية – دولة الحداثة – تختلف عن الدولة التقليدية، تصبح دولة غير دينية، ربما لا تعادي الدين سياسياً وسلطوياً ولكنها بالتأكيد تعاديه عملياً وتطبيقياً، وتكون دولة مادية ودورها يتركز على توفير فرص التعامل بين الأفراد.

 

العولمة في التطبيق الملموس:

تؤدي العولمة إلى هشاشة الدولة تجاه الخارج فلا تعود متماسكة أمام القوى العظمى التي تسيطر على تيارات العولمة في الاقتصاد وفي الثقافة وفي السياسة وفي الإعلام.

وحينما تكون الدولة مؤلفة من فئات مذهبية أو عرقية أو اجتماعية أو دينية أو من ذلك كله، فإنها تكون أيضاً هشة في الداخل أمام عوامل الانقسام وتكون هشة في الخارج أمام عوامل الاستتباع. ونعتقد أن هذا أحد مقاصد الدول العظمى.

وأما إذا كانت الدولة متجانسة في شعبها فإن هشاشتها اتجاه الخارج تؤدي إلى استقواها على شعبها في الداخل، وترتفع مستويات القمع ومصادرة الحريات وفرض السياسات على المجتمع.

إن فسح المجال للعولمة في مجال الاقتصاد يؤدي إلى إفساح المجال لسيطرة الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والتي لا تعترف بالدول ولا بالحدود ولا بالشعوب ولا بالأخلاق، بل تؤدي إلى تدمير القيم الأخلاقية التي يجب أن تحكم الإقتصاد والتنمية والعلم، وقد تسخر كل ذلك لزيادة الأرباح، ولقمع كل تطلع ويؤنسن التنمية ويؤنسن العلم.

وحينما نبحث عن القوى المؤثرة والتي تدير عملية العولمة لمصلحة القوة العظمى الأخرى نجد أنها الدول الثماني الصناعية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمؤسسات النقدية العالمية الخاصة مثل البنوك الكبرى في العالم، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية، والشركات المتعددة الجنسيات.

ونلاحظ نحن المسلمين أن جميع هذه القوى المحركة للعولمة والتي تديرها، تتخذ موقفاً سلبياً من الإسلام والعرب في الصراع مع الصهيونية، وفي قضايا الثقافة.

إن وقوف العرب والمسلمين ضد العولمة، أو اتخاذ موقف الحذر ناشىء من التجربة العملية، وليس مجرد موقف انفعالي.

وليس العرب وحدهم ضد العولمة، وليس المسلمون وحدهم ضد العولمة، فنحن نلاحظ كيف أن الاوروبيين وخصوصاً الفرنسيين ينعتون العولمة بأنها (أمركة العالم) وهي في الحقيقة أمركة العالم. والأمريكيون يقولون أنها النظام العالمي. يريدون أن يعطوها إسماً غير أمريكي ولكنهم يسيطرون عليه.

أوروبا تصرخ وتقول (أوقفوا الأمركة) لأن هذا النظام المسمى النظام العالمي يهدف إلى فرض الثقافة الأمريكية ونمط الحياة الأمريكي، والاستيلاء على مقدرات الاقتصاد العالمي، وتحطيم الاقتصادات الأخرى، حينما تعجز أمريكا عن استتباعها، ونتذكر صرخة وزير الثقافة الفرنسي (جاك لانغ) في المكسيك في المؤتمر العالمي للأونيسكو حينما قال: (اتحدوا ياثقافات الدنيا ضد الغزو الأمريكي الثقافي) العولمة تتجلى بهذا النحو من الاستتباع.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة