مقالات

العرفان عند الإمام الخميني (1)

 

الشيخ شفيق جرادي ..

موضوع العرفان في شخصية الإمام الخميني(قده)، تتداخل فيه السلوكيات الحياتية اليومية للإمام(قده). فكيف يمكن أن نستشفّ من هذه السلوكيات معالم الاتجاه العرفاني له؟، وما هو مضمون فهم الإمام لمسألة العرفان؟ .

تقديماً لهذا البحث، لا بدّ من توضيح أمرين:

-الأمر الأول: كيف يمكن أن نتفهّم العرفان بحسب رأي الإمام، من نفس حياته(قده)؟

نحن اعتدنا أن نفهم أيّ موضوع من الموضوعات حينما يتحدّث الشخص عنه،أمّا أن نستفيد المفهوم من نفس العمل الذي يقوم به، ومن نفس الممارسة، فهذا قلّما اعتدناه.

بالواقع، أستطيع الجزم بأنّ كثيراً ممّا تعوّدناه في مجال البحث والتّفكر والتّأمل، يحتاج إلى إعادة النظر والتدقيق؛ لنرى مدى صلاحيته وصوابيته، ومن هذه الموارد: أنّنا إذا أردنا أن نستعلم عن فكر إنسان ما، ينبغي أن يكون واحدا من موارد البحث في شخصيته، هو سلوكه الحيّ، وكيف انسجمت النظرية التي يمتلكها مع طبيعة التطبيق والممارسة التي يقوم بها. هذا بالعموم، فكيف إذا تحدّثنا عن العرفان؟!

العرفان عبارة عن جملة من القيم والممارسات التي يقوم بها العارف؛ حتى يُحصّل نحواً من المعرفة؛ أيّ أنّ هناك جملة من القيم التي يلتزم بها العارف، ويعتمدها ويؤمن بها. وهناك جملة من الممارسات العملية، سواء كانت الأفكار، الارتياضات، أو العلاقة مع الخلق، أو العلاقة مع الباري عزّ وجلّ، فهذه الممارسات هي التي تصنع عرفان العارف.

إذا كان العرفان هو هذا المعنى، فهذا يعني أنّ العرفان هو تجربة يقودها العارف. لندقِّق في معنى التجربة التي نمارسها: عند العارف حقل التجربة؛ أيّ المكان الذي تحصل فيه تجربة العارف، هذا الحقل هو النّفْس؛ لذلك يقول العرفاء: إنّ بداية العرفان، وطريقه، ومنتهى مقصده هو النفس.

نحن نعلم أنّ النفس هي صاحبة تأثير على البدن وحركته؛ بمعنى إذا أراد أحد أن يسأل: فلان قوله طيّب أو خبيث؟ فعله طيّب أو خبيث؟ كيف يُعبّر عن قوله وفعله وتفكيره؟

يُعبّر بـ (نفسه)؛ لأنّ للنفس هذا المستوى من القدرة في التأثير على البدن في حركته، على القرار الذي نتّخذه، وعلى الذّهن فيما يتولّد فيه ويخرج منه من تعابير، فلا نستطيع أن نُعبّر عن المفاهيم الذهنية إلا من خلال الأقوال.

إذاً، تؤثر النفس على التجربة الحيوية للإنسان كفرد، تأثيراً كبيراً؛ فإذا كانت النفس حقل العرفان، فإنّ التجربة العرفانية للعارف سوف تنعكس على مستوى نفسه، تنعكس على قوله وفعله وعلاقاته وممارساته ونظرته للأمور… ؛ لذلك ينبغي أن نلتفت في موضوع العرفان إلى ضرورات وتأثيرات هذه التجربة العرفانية، ومظاهر هذه التجربة هي مصدر من مصادر فهمنا لشكل واتجاه عرفان العارف.

 

-الأمر الثاني: بعد التأكيد على ضرورة قراءة الفعل عند العارف، نريد أن نبيّن: ما هو العرفان؟

في اعتقادي أنّه من المواضيع الملتبسة في التعريف؛ لأنّ وظيفة التعريف أن يكون من خلال الحدّ التام؛ أيّ أن يكون جامعاً مانعاً. في الفاصل بين التّصوُّف والعرفان، لا يوجد تعريف محدّد لكلّ منهما بحيث نقول: إنّ هذا عرفان وذاك تصوّف؛ لذا نرى الكثير من أشكال وممارسات المتصوّفة، قريبة من مناخ وجوّ العرفان. إذاً، ما هو المائز ما بين التصوّف والعرفان؟؛ لنكتشف ما هو العرفان؟

ما أظنّه ظناً قوياً، أنّ التصوّف في بداياته الأولى هو نفس العرفان المقصود؛ أيّ عبارة عن عيش خاص، ضمن قناعة علاقة خاصة بالله، يُراد لهذا العيش وجه الله، ومن يُرد وجه شيء لا بدّ له أن يعرفه ولو بوجه، فكيف إذا طلب أن يعرفه بالكلّ؟! قد تتعجبون من ذلك؛ لأنّ "من تفكر في ذات الله هلك"، فهل يمكن أن يُعرف الله؟، غايته أن يعرفه بالكل، وهذا أمر واحد بين التصوّف والعرفان، ولكن فيما بعد؛ حينما ابتدأت بعض أعمال وحركات الاختلال عن السياق المرسوم، والمحدّد، والمباح، والمحبّب باتجاه العرفان والتصوّف، بدأ الحديث عن المتصوّفة بطريقة سلبية، حيث صار المتصوّف يسعى لتأكيد معارفه ولو بطريقة غير شرعية. والطرق غير الشرعية صنفين: صنف يُقصد به تقوية النفس فقط، ولو بأمور فيها حماقات الشعوذة والسحر، على طريقة أهل الهند، التي تقام بشكل سلبي جداً. وصنف باسم الإسلام، وهي طرق لا تنسجم مع معطيات وأوامر الكشف المحمّدي التام، الذي يُقصد به الوحي.

البعض يقول: "نحن غير ملتزمين بظاهر الشريعة؛ لأنّ الدين يحوي على ما هو أعمق من ظاهره ، فإذا التزمناه صرنا أصحاب معرفة". وهذا نحو من الشّطط الذي وقع فيه الكثير من المتصوّفة.

لقد برز موضوع التصوّف بشكل جادّ ، عندما تحوّل أهل الصوفية إلى فرق وجماعات؛ فرق القادرية، والنقشنبدية، ومولانا، و… . ولديهم ممارسات خاصة، من تعبّد وطقوس، ولهذه الفرق تأثيرات، حتى من الناحية السياسية، إلى أن جاء القرار السياسي الذي أنهاها تقريباً.

في هذا الوقت حافظ العرفان على الجنبة المتعلّقة في العلاقة بالله ومعرفته، إلى أن تطوّر العرفان في صورة من صوره، وهنا بدأ بالافتراق عن الصوفية؛ بأن بقي حالة وتجربة فردية يعيشها الإنسان مع الله؛ ويُقصد بها (المعارف الإلهية).

أؤكّد على (المعارف الإلهية) وليس كثرة الحركات تحت عنوان الدين والإسلام، بل المقصد هو المعارف الإلهية، إلى أن تحوَّل العرفان إلى جنبة نظرية، في مرحلة من مراحل تطوره. وهذا لا يعني أنّ العرفاء الذين تحدّثوا بالنظريات، ليس لديهم تجربتهم النابعة من قيم العلاقة بالله، لكنّهم تحدّثوا بطريقة غلبت عليها السِّمة الفلسفية.

ولدينا كتب تتناول الجانب العرفاني، مثل "الفتوحات المكية"، "فصوص الحكم"، "مصباح الأنس"، وغيرها، هذه كتب عرفانية وليست صوفية. وفي المقابل، وجدت كتب صوفية تميّزت لغتها بطابع الحكمة، لكنّها لم تدوِّن نظاماً معرفياً كالعرفان، الذي دوَّن نظاماً معرفياً على مستوى فهم العرفان، وفهم المعارف الإلهية.

إذاً، المائز الأوّل في التصوف هو: الوقوع في الشّطط، من خلال اعتماد أمور؛ لتقوية النفس، لا تستند إلى الإسلام، أو إذا استندت إلى اسم الإسلام، فلا تستند إلى الشريعة، والشريعة هي"الكشف المحمّدي الأتمّ"

-واستخدمت هذا التعبير؛ لأنّه متداول عند كلّ العرفاء والصوفيين- وعندما لا يستندون إليها، يستندون إلى ما يخالفها.

المائز الثاني: تحوُّل الصوفية إلى فرق، عكس العرفان.

المائز الثالث: في اللغة، الصوفية تعتمد على الحكمة، على القول الذي يحوي "بارقة". أمّا العرفان، فتحوّل في تطوراته إلى نظام، وبقي على العلاقة الفردية، ومقصد البُعد الإلهي، وإنشاء نظام معرفي خاص به، من ضرورياته العُزلة، حتى تمادى البعض في مسألة العُزلة، لدرجة عدم الاختلاط ومعرفة أمور الناس؛ لأنّ أيّ اختلاط أو تعرّف يساوي المعصية من منظارهم، بحجّة بعدها عن الله؛ لأنّ عدم المعصية –حسب اعتقادهم- هو النظر الدائم إلى الله، والالتفات إلى الخلق يُبعد عن الحقّ إلى غيره.

 

ماهية العرفان عند الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه):

يبدو أنّ الإمام الخميني(قده) قد انخرط في عالم العرفان، منذ بداية شبابه؛ فكان عنده حالة من حالات الانجذاب إلى المعرفة الإلهية بشكل استثنائي، بحيث إنّه بعد التزامه درس أستاذه بفترة وجيزة، اعتبر الأستاذ أنّ ما يريد أن يوصله إليه قد وصل، وأنّه أصبح بمستوى يتعلّم منه أستاذه في كثير من الأحيان. ليس المقصود أنّه يتعلم الأمور النظرية؛ لأنّ الأستاذ كان ما زال يُعلّم الإمام الأمور النظرية. الظاهر أنّه كان يتعلّم من قدسية نفس الإمام عند الشيخ؛ لأنّ واحدة من شروط العلاقة بين الشيخ والمريد، أن تنكشف نفس المريد لنفس الشيخ؛ أي أن تصبح صفحة واحدة بيضاء مقروءة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة