قديمًا كتب العلّامة المطهري حول الدوافع نحو المادية؛ وكانت المادية قد اجتاحت كل العالم بما في ذلك الحوزات الدينية في إحدى نسخها التي هي عبارة عن الظاهرية والقشرية. لم تمضِ مدة طويلة حتى اجتاح عالمنا توجهٌ جديد نحو الدين. كانت الثورة الإسلامية في إيران التي تحدّت الشرق والغرب، ووقفت بشموخ أمام الغطرسات الإمبريالية وتسلُّط القوى العظمى ذات جاذبية خاصة، استقطبت الكثير من المسلمين، وأعادت روح التدين بفضل قيادتها التي ذكّرتنا بالأنبياء، ورفعت شعار عودة الدين إلى الحياة.
دخول الناس أفواجًا في الدين ورجوعهم إليه، لم يكن في الغالب بسبب قراءة معمقة وواسعة للنصوص والكتابات التي دارت حول الدين، بل بسبب الشخصية العظيمة للإمام الخميني، الذي أظهر أنّ الدين هو الذي يقف وراء هذه القوة التي قاومت وثارت وتحدّت ووعدت بمستقبلٍ مشرق للبشرية.
التدين الجديد كان بمعظمه تفاعلًا مع روح بثت الأمل في الخروج من اليأس المطبق الناشئ من كل ما جنته معسكرات الرأسمالية المتوحشة والشيوعية الاستبدادية. ولم تمضِ برهة حتى نسي الناس هذه القوة التي حررت ووعدت بالتحرّر، بعد أن بدأوا يتطلعون إليها كقوة تعدهم بالتقدم والازدهار والاقتدار. بالنسبة للكثيرين من هؤلاء المتدينين الجدد كان تغيير العالم كله مسألة وقت فقط!
لكننا غفلنا عن أن القوة التي نحتاج إليها لبناء مجتمعٍ مزدهر ومتطور ومستقل وكريم، هي أكبر بكثير من القوة التي احتجنا إليها للثورة على المستبد الظالم والتحرر من الاستعمار وطرد المحتل من أرضنا.. لكنّنا لم نتمكن من إدراك هذه النقطة ربما لأننا استنفدنا كل طاقتنا الفكرية في المرحلة الأولى، فلم نتعلم من هذا الدين كيف تُبنى القوة أو يحصل الاقتدار العالمي، فارتد قسمٌ منّا أو أُحبط حين رأى بُعد الشقة وطول المدة، وحين ارتطمت تجربته الجديدة بنوعٍ جديد من التحديات لم يعرف عنها شيئًا.
لا تمتلك أجيال اليوم فهمًا واضحًا لهذه الحقيقة، ولا يمتلك أصحاب الخطاب الديني بمعظمهم تصورًا دقيقًا عن علاقة الدين ببناء هذه القدرة؛ لذلك يصعب عليهم كثيرًا أن يبعثوا دوافع جديدة للتدين المطلوب في هذه المرحلة. وما لم تقضِ على عدوك عند مواجهته، أو تكون على طريق القضاء عليه في أُفُقٍ واضح فتتقدم على مختلف الجبهات وأنت تسير نحو أهدافك، فإنّ هذا الأمر سيمكّن هذا العدو من استعادة قدراته التي فقدها أثناء منازلتك، ليعود مرة أخرى ويوجه لك أشد الضربات. وهنا ربما يتحول هدفك من "بناء مجتمعٍ متطور ومزدهر وعزيز" إلى تحقيق الصمود قدر الإمكان.
الصمود يعني الثبات على ما أنجزته مهما كانت الأكلاف والأثمان. وفي مثل هذه المعركة العالمية الحضارية، أن تتنازل عن بعض الوعود التي قطعتها لمن دخلوا في الدين أفواجًا سيكون من هذه الأثمان، ولن تقدر على المحافظة على تلك الروحية الثورية التي بنيت بها مؤسساتك التي كُلّفت بتحقيق التطور. حين تتحول المؤسسات عن ذلك الهدف الكبير وتتخلى عنه، وإذ بها لا تخدم سوى هدف الصمود، فمن المتوقَّع أن يخرج الناس منها أفواجًا، ويبقى المنتفعون المحافظون إلا ما رحم الله.
إذا كان الدافع عند الشباب للتدين بعد الانتصار هو تحقيق ذلك المجتمع الراقي المتفوق، ولم نقدر على تلبية دافعهم هذا، فمن الطبيعي أن يعم الإحباط ويضعف هذا التدين الذي قام على أساس طموحات كبرى. التدين العمومي أو تشكل تيارات واسعة للتدين في المجتمع كان وسيبقى تابعًا لمدى نجاح أئمة الدين في مخاطبة الآمال ومواساة المضطهدين.
حين تتمكن الشخصيات التي تنطق باسم الدين من الاستحواذ على خطاب الأمل وخطاب المواساة، فتتمكن من إراءة الأفق المشرق في الغد الآتي، وتتمكن من تفسير أسباب المعاناة الجديدة (التي معظمها ناشئ من ضعف الجبهة الداخلية وتشتتها) وتحديد المسؤولين عنها والوقوف بوجههم، فإنّ دعوتها إلى التدين ستلقى الاستجابة الواسعة.
وحين تصبح هذه الشخصيات في موقع التبرير للوضع الحالي، وتكتفي بمقارنته بماضٍ بئيس يصعب على الشباب إدراكه وتصوره، فإنّ هذه الشخصيات أو هذا الخطاب الديني سيفقد القدرة على تشكيل دوافع قوية نحو التدين. إن أرادت الشخصيات التي تتصدى للشأن العام أو التي تمتلك نفوذ المنابر أن تكون قوة استقطابية، فهي بحاجة إلى التعامل مع المشكلة الأساسية بكل جرأة ووضوح؛ وذلك بربط الحلول بالدين وقدرته الفريدة على الخروج من المأزق. ويجب أن يرى الشباب هذه الفرادة والتميز في الدين في أُطروحة وقيم هي أوسع وأعمق مما هو موجود عند الآخر وربما بجاذبية أكبر، مثل المقاومة والتحرر والنظام والتطور والمدنية والعمران الذي يمكن أن نشاهد نماذجه البارزة خارج نطاق الدين.
لا ينبغي أن ننسى أنّ قوة الدين في العصر الحديث قد تبلورت، في الوقت الذي أدرك كل العالم أنّ الصراع الفكري والأيديولوجي الذي هيمن على كل الثقافات، إنّما هو صراع بين قوتين عظميين تسعى كل واحدةٍ منهما للسيطرة على العالم وتحقيق مصالحها الخاصة. ولذلك جاء الخطاب الديني الإسلامي الثوري فريدًا وناصعًا وصادقًا. وبعبارةٍ أخرى، كان جزءٌ من قوة هذا الخطاب نابعًا من إفلاس الأطروحات التي وقعت ضحية استغلال القوى الإمبريالية في الشرق والغرب.
في حين أنّ الخطاب الديني اليوم يعتاش على غطرسة الآخر واستكباره وهمجيته التي تجلت في الحروب التي شنها على منطقتنا وبالخصوص على فلسطين. فما دام هذا الخطاب يقود حركة المقاومة والرفض والاستنكار لهذه البشاعة الغربية (التي تستأثر بالثقافة العالمية) فإنّه سيقدر على تعبئة الشباب واستقطابهم. وحين يستخدم الآخر سلاح القوة الناعمة، ولا نقدر على استخراج العناصر الناعمة من ديننا، فسوف يكون هذا الآخر في موقع الغالب.
وباختصار، إنّ حركات التدين واللاتدين كانت وستبقى تابعة للحركات الاجتماعية السياسية والاستحقاقات الكبرى والقضايا الأساسية. وأصحاب الخطاب الديني أمام هذا النوع من التحدي الذي يتطلب الكثير من العمل العلمي الذي لم يكن له سوابق على مدى تاريخ القرون الماضية.
*ينبغي أن نقر أولًا بأنّ تحديد ماهية التدين وحدوده يخضع كثيرًا لفهم كل شخص للدين. كما إنّ التدين ولا شك درجات ومراتب. ولهذا يقع الاختلاف في تحديد المتدين تبعًا للاختلاف حول الدرجة المطلوبة...
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ شفيق جرادي
السيد جعفر مرتضى
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
إيمان شمس الدين
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ فرج العمران