علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الفيزياء والفلسفة : القطيعة والاتصال (2)


د. جاسم العلوي ..
ننتقل إلى شَكل آخر ومستوى أعمق من العلاقة بين الفيزياء والفلسفة؛ بحيث يسمح هذا الشكل من العلاقة للفلسفة أن تُسهم مع الفيزياء في اكتشاف الواقع الطبيعي.
الطائي والفيزياء الكلامية
ينطلق مُحمد باسل الطائي الفيزيائي النظري، في رؤية مُتوسِّعة جدًّا لشكل العلاقة بين الفيزياء والفلسفة والدين. ويَرَى أنَّ العالم بما هو موضوع للاستكشاف والمعرفة العلمية بالتحديد، لكنَّ ذلك لا يمنع من الإفادة من عقلانيات بعينها مختلفة المناهج كالعقلية الفلسفية والدينية في معرفة العالم وفق مُحدِّدات صارمة ذات مرجعية علمية. خصوصًا بعد أنْ قدَّمت النظرية الكمية صورة للعالم أسقطت فيها حتمية القوانين العلمية، وأصبح جوهر الرؤية العلمية قائمًا على الاحتمالات؛ حيث لا تتخذ النتائج صفة اليقين إلا بقدر نسبوي. ويذهب الطائي إلى أبعد من ذلك في رؤية صادمة للعقلانية العلمية المنغلقة على ذاتها، والتي لا ترى الحقيقة إلا من خلال الالتزام بمنهجها التجريبي المرتكز في فهمه للعالم وقوانينه على التجربة حصرًا، ويَرَى أنَّه يُمكن للعقل الفلسفي والعقل الديني أن يُبدعا نظريات، وأن يكتشفا قوانين طبيعية تتطابق مع الواقع الموضوعي بشكل أفضل مما يفعله العقل العلمي، أو على الأقل مضاهيًا له. يقول الطائي في كتابه “دقيق الكلام..الرؤية الإسلامية المعاصرة لفلسفة الطبيعة”، إنَّ الطرحَ الكلاميَّ كما نجده في إطاره الفلسفي هو تلخيص مُتقدم لرؤية عميقة متكاملة للعالم، لا تخلو من أخطاء ونواقص دون شك، لكنها يمكن أن تُؤسِّس لفلسفة طبيعية متقدمة “فلسفة غير متناقضة مع ذاتها، تمتلك كل أدواتها المنسجمة مع بعضها لتؤدي بنا إلى فهم أعمق للعالم ربما يساعدنا على اكتشافه” (5-ص:23). هذا النص يقدم رؤية منفتحة وإيجابية لمختلف المناهج والعقلانيات المتعدِّدة في السياق الذي يسند بعضها بعضًا، ويقدم رؤية متكاملة للعالم.
إذن، يُمكن بحسب هذه الرؤية المتوسعة جدًّا أنْ يكون للفلسفة والدين دورٌ في استكشاف الواقع العلمي، أو المساهمة جنبًا مع العلوم في فهم الواقع، ولكن وفق مُحدِّدات علمية صارمة ذات مرجعية علمية. فما هي المحدِّدات العلمية للرؤية الطائية؟
أولا: العقلانية الفلسفية والدينية تمتلك موضوعية.
ثانيًا: ينبغي أنْ لا نعتبر النتائج التي تفرزها العقلانية الدينية مقدسة.
ثالثًا: أن نخضع جميع النتائج المبنية على مناهج فلسفية ودينية للتجربة والقياس.
صَاغ نضال البغدادي المفكِّر العراقي، الرُّؤية الطائية في قالب فلسفي أسماه “فلسفة التضامر”. ففي كتابه “الفيزياء الكلامية”، تعرَّض البغدادي لجُملة من الأمثلة التي وَرَدت في كتاب الطائي “دقيق الكلام”، والتي يكشف الطائي من خلالها التطابق بين علم الكلام الإسلامي في الطبيعيات، والفيزياء المعاصرة، ليكون ذلك دليلًا دامغًا على إمكانية الجمع بين العقلانية العلمية المنفتحة والعقلانية الدينية والفلسفية. ومن بَعْض الأمثلة التي التقطها الطائي من علم الكلام الإسلامي، والتي كما يعتقد تتطابق مع رؤية الفيزياء المعاصرة، هو شيئية العدم؛ فالمعتزلة قالت إنَّ المعدوم شيء؛ وذلك اعتمادًا على أنَّ حقيقة الشيء كونه معلومًا، ومن المعروف أنَّ الفيزياء الحديثة تنفي وجود الفراغ، وتقرِّر وجود جسيمات افتراضية فيه (5-ص:45-46). ولسنا هنا بصدد مُناقشة الطائي في أنَّ للعدم شيئية، وفي المطابقة بين شيئية العدم وانتفاء الفراغ المطلق في الواقع الطبيعي. والطائي يُوْرِد كثيرًا من الأمثلة التي يَرَى فيها التطابق بين كلام المتكلمين في الطبيعيات والفيزياء الحديثة. ورَغْم تحفُّظنا على بعض هذه المطابقات، إلا أنَّني أتفق معه في عموم الفكرة، والنظرة الإيجابية لهذه العلاقة انطلاقًا من إيماننا بتراتبية الحقيقة.
دعونا نَنْظُر إلى شكل آخر من العلاقة بين الفيزياء والفلسفة، ولكن في بنيتها التابعة، يُقدِّمها الفيلسوفُ الفرنسيُّ جستون باشلار، وهي رؤية تستحق التوقف بالفعل.


باشلار والعقلانية التطبيقية
على الرَّغم من أنَّ جستون باشلار يرفض استخدام الفلسفة العقلية والتأمُّل الغيبي في مسائل العلم؛ حيث يرى أنَّها عملية ترحيل الفكر الفلسفي العقلي إلى مَسَائل العلم، وهو خروج عن الغائية والروحية التي من أجلها وجد، وهي عملية مُخيِّبة للآمال في الغالب، وهو بذلك يقع على نقيض مع الرُّؤية الطائية المتوسعة والمنفتحة، إلا أنَّ له فلسفة جديرة بالاهتمام تَخْرُج عن السياق التقليدي للنزعة التجريبية والنزعة العقلانية الكلاسيكية.

ينطلقُ باشلار في رُؤية جديدة للعقلانية العلمية أو العقلانية التطبيقية، أو ما يسميه الفلسفة المفتوحة، بناءً على التطور التاريخي للعقلانية العلمية. ويفرِّق باشلار بين علم الأمس والعلم الحديث، فالقرون التي سبقت القرن العشرين كان العلم والفلسفة التجريبية يتحدثان لغة واحدة، وكان الشعار فيها كما يقول: “عوِّدوا الأذهان الشابة على الارتباط بالمشخص، والاهتمام بالحوداث، انظر كي تفهم”. لكن هذا الانسجام بين العلم والفلسفة التجريبية لم يَصْمُد بعد أنْ كشفت الفيزياء الحديثة عن لغة مستعصية على طريقتنا التقليدية في الكيفية الخاصة التي اعتدنا بها التحليل. فيَرى باشلار أنَّ التقليد المتبع في التحليل يُولِّد لدينا عادات سيكولوجية ضارة بالمعرفة، تشكل عقبات معرفية تعمل على تباطؤ الفعل المعرفي (6-ص:13). لقد وضعتنا الفيزياء الحديثة أمام هزة إبستمولوجية كبرى. فقد كشفت -الفيزياء الحديثة- عن عددٍ من الظواهر الجديدة، والتي كما يرى باشلار حتَّمت الخروجَ بفلسفة ذات تصوُّر مُختلف قائم على الحوار بين العقل والتجربة. ترفضُ هذه الفلسفة الجديدة الانطلاق من مبادئ قبلية، ومن فلسفة ناجزة ذات رؤية فوقية عمومية للعالم، كما ترفض ربط الفكر وعملياته بالمعطيات التجريبية حدها.
فلقد ألغتْ الفيزياء الحديثة فردانية الجسيم؛ فلم يعد الحديث عن الجسيم إلا ضمن مجموعة، ونحن لا نستطيع التعرُّف عليه إلا من خلال علاقته بالمجموعة. كما أظهرت الفيزياء الحديثة تداخلًا بين العقل والكائن، وبين الموجة والجسيم. هذه الظواهر الجديدة والملتبسة أفضت إلى تناقض كبير مع الفلسفة التجريبية؛ إذ لم يعد المعطى الحسي في مثل هذه الظواهر هو القادر على إمدادنا بالمعلومات كما تزعُم النزعة التجريبية. إذ أصبح المعطَى الحسي في الميكروفيزياء وسيلةً للتحليل الرياضي أكثر من كونه موضوعًا للمعرفة التجريبية. وبما أن الواقع غير قابل للتفرد كما أن القياس الدقيق عملية معقدة جدا، فإنَّ العالم سيعطي أهمية كبيرة لبنية العلاقات الرياضية التي تقوم بتوجية التجارب العلمية. إذن، نحن أمام منعطف أبستمولوجي جديد فرضته التطوُّرات العلمية الحديثة في المجال الذري. ويتمثل هذا المنعطف في أنَّ العقلَ العلميَّ يتطوَّر نحو التجريد الرياضي؛ فالتصور العلمي الجديد للواقع هو تصوُّر تحكمه البنيات الرياضية وليس الكائنات الفيزيائية. يقول باشلار: “إنَّ الفكرَ الواقعيَّ لا يستحدث من ذاته أزماته الخاصة، لم يحدث هذا قط. إنَّ الاستثارة تأتيه من الخارج دوما، وبالضبط من ميدان المجرد، الميدان الذي فيه تنشأ ومنه تنطلق. إنَّ منابع الفكر العلمي المعاصر تنتمي إلى ميدان الرياضيات”. (7-ص:463-470).
ويَرَى باشلار أنَّ هُناك قطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية، وأنَّ العقلانية التطبيقية أو الفلسفة المفتوحة التي تعطي تصورًا للواقع العلمي من خلال علاقة شديدة الخصوصية بين الفيزياء والرياضيات يمكن أن تمد جسور القطيعة بينهما.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة