مقالات

ثورة الحسين لـمَن؟ (1)

أنطوان بارا

لم تحظَ ملحمة إنسانيّة في التاريخَين القديم والحديث، بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف، فقد كانت حركة على مستوى الحدث الوجداني الأكبر لأمّة الإسلام، بتشكيلها المنعطف الرّوحي الخطير الأثر في مسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها، لكان الإسلام مذهباً باهتاً يركن في ظاهر الرّؤوس، لا عقيدةً راسخة في أعماق الصدور، وإيماناً يترع في وجدان كلّ مُسلم.

لقد كانت هزّة وأيّة هزّة! زلزلت أركان الأمّة من أقصاها إلى أدناها، ففتحت العيون، وأيقظت الضمائر على ما لسطوة الإفك والشرّ من اقتدار، وما للظلم من تلاميذ على استعداد لزرعه في تلافيف الضّمائر؛ ليغتالوا تحت سترٍ مزيّفة قِيَم الدِّين، وينتهكوا حقوق أهله، ويخمدوا ومضات سحره الهيوليّة.

كانت ثورة بمعناها اللّفظي، ولم تكن كذلك بمبناها القياسي؛ إذ كانت أكبر من أن تستوعب في معنى لفظي ذي أبعاد محدودة، وأعظم من أن تقاس بمقياس بشري.

كانت ثورة رَقَت درجات فوق مستوى الملحمة، كما عهدنا الملاحم التي يجاد بها بالأنفس. فأيّة ملحمة هي استمدّت وقود أحداثها من عترة النّبي وآل بيته الأخيار (عليهم السّلام)؟ وأيّة انتفاضة رمت إلى حفظ كيان أمّة محمّد وصون عقيدة المسلم، وحماية السنّة المقدّسة، وذبّ أذى المنتهكين عنها؟

فإذا نظرنا إليها بمنظار الملاحم، لم يفتنا ما فيها من كبر فوقها. فالملاحم والثورات التي غيّرت مجرى التاريخ والأمم، تقاس عادةً بمدى إيجابيّة أهدافها وعظمها، وإمكانيّة تساميها إلى مستوى العقيدة أو المبدأ لمجموع فئة ما أو فئات؛ وعلى هذا المقياس، تكون ثورة الحسين (عليه السّلام) الأولى والرائدة والوحيدة في تاريخ الإنسانيّة مذ وجدت وحتّى تنقضي الدّهور؛ إذ هي خالدة خلود الإنسان الذي قامت من أجله.

أولى؛ لأنّها في إطارها الديني، هي أوّل ثورة سجّلت في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ الأديان السماويّة الأخرى، على مستوى المبادئ والقِيَم العقائديّة.

ورائدة؛ لأنّها مهّدت لروح ثوريّة، وثورة روحيّة انطوت عليها صدور المسلمين، تذكّرهم في نومهم وقعودهم بمعنى الكرامة، وبمعنى أن ينتصب المؤمن كالطود الصلب في وجه موقظي الفتنة باسم الدين، ورافعي مداميك الشّرك والعبث في صرح العقيدة. فكانت دعوة جاهرة لنقض هذه المداميك، وهدم دعائم الضّلال، والوقوف أمام أهداف الذين حادوا عن صراط الشّريعة، ولعبوا بنواميس الدِّين وشرائعه، وقامروا بكيان الديانة الوليدة، تمهيداً لوأدها قبل أن تحبو.

ووحيدة؛ لأنّها استحوذت على ضمائر المسلمين فيما خلّفته من آثار عقائديّة ضخمة. فما كان قائماً من ممارسات لدى القائمين على الإسلام والحاكمين باسمه، كان بحاجة إلى هزّة انتحاريّة فاجعة لها وَقْع الصاعقة آنذاك، ومسرى الحبّ في الضّمائر بعد أجيال وحقب تالية.

وخالدة؛ لأنّها إنسانيّة أوّلاً وآخراً، انبثقت عن الإنسان وعادت إليه مجلَّلة بالغار، وملطَّخة بالدم الزكي، ومطهَّرة بزوف الشهادة المُثلى، فظلّت في خاطر المسلم رمزاً للكرامة الدينيّة، شاهد من خلالها صفحة جديدة من مسيرة عقيدته، صفحة بيضاء عارية من أشكال العبوديّة والرّق والزّيف، مسطّرة بأحرف مضيئة تهدي وجدانه إلى السبل القويمة التي يتوجّب عليه السير في مسالكها؛ ليبلغ نقطة الأمان الجديرة به كإنسان.

إذاً هي خالدة؛ لأنّها أخلاقيّة، سنّت دستور أخلاق جديداً أضاء للأمّة الإسلاميّة درب نضالها على مختلف الأصعدة، وعلّمها كيف يكون الجود بالنّفس في زمان ومكان الخطر المحيق رخيصاً، وكيف يكون الموت سعادة والحياة مع الظّالمين بَرَماً، والموت في عزّ خير من حياة في ذُلّ.

تلك كانت مبادئ معلّم الثّورة الحسين (عليه السّلام) في ثورته التي فجَّرها للإنسان أيّاً كان على وجه هذا الكون، وسجّلها لِتُقال ويُعمل بها في أيّ مكان وزمان برزت فيهما الجاهليّة من الأنفس، واندثرت النزعة السّامية التي بشّر بها الأنبياء والمصلحون، والتي ما أنزلت في النفوس إلا لتحقيق العدل بين الجميع، ونشر الرّحمة والحقّ فيما بينها.

فإذا ما نظرنا إلى هذه الثّورة بمنظور اجتماعي ونفساني بحت، لوجدنا أنّ ما أسفرت عنه من أخلاقيّات اجتماعيّة لأكثر من أن تحدّ؛ فقد أفلحت النظم التي طوّق بها الأمويّون مفاسد حكمهم في أن تقف حائلاً بين المسلم والثّورة على هذه النظم والأساليب. ويوماً بعد يوم، انغرست مبادئ التدجين البشري في النفوس، واستوطنت الحنايا مسلّمات الخنوع والرّضا بالمغانم الدنيويّة الزائلة، فنامت ضمائر المسلمين نومة أهل الكهف، واسترخت الهمم الثوريّة التي كانت رمزاً للمسلم في منطلق بعث ديانته، حتّى تحوَّل هذا الاسترخاء إلى آفة اجتماعيّة ونفسيّة وغدت تهدّد روح العقيدة.

كانت هذه الآفة تدغدغ من داخل الصدور، وتوسوس ناصحة بالمحافظة على الذوات، والحفاظ على المكاسب المادّية، والمنازل الاجتماعيّة، وتحول دون النضال، فلا يندفع إليه المسلم بحُميا نكرانه لذاته، واستهانته بمكاسبه الزائفة ومنزلته الاجتماعيّة، إلى إزالة وضع شاذّ أجبر على السير في ركابه دون أن يدري إلى أيّ منزلق يقوده.

من هذه النقطة الّتي وصل إليها الإسلام كعقيدة، والمسلم كإنسان، انطبعت في سويدائه مبادئها، وجد الحسين (عليه السّلام) بأنّه لا مندوحة من إحداث هزّة توقظ النائمين في أوهامهم، السادرين في ضلالهم، وتقديم بديل حقّ لِمَا كان يسود الأمّة من مبادئ استسلاميّة. ولمّا تفجّرت هذه الثورة واشتعل أوارها، هتفت للمسلم: قم، لا ترضَ، لا تستسلم، لا توافق على تدجين عقيدتك، لا تبع نفسك الّتي عمرت بالإيمان لشيطان المطامع، ناضل ولا ترضَ بحياة بلهنية وترف مع الظالمين وهادمي الذوات.

وتردّدت أصداء هذه الصيحات في أودية النفوس التي سكنت إلى الهدم يعمل في داخلها، فهبّت بعد إخلاد دام ربع قرن منذ مقتل أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتولّي الأمويين مقاليد الأمّة، حيث غدا الاضطهاد والظلم وسرقة أموال الأمّة بديهيّاتٍ مسلّماً بها. هبّت كبركان عاصف محموم، فاقتلعت هذا الرّكام من البديهيّات المتمثّل بالخنوع والزلفى والانهيار البطيء.

والخطأ الفادح الذي يتصوّره أولئك المتسائلون ردّاً على أسئلتهم: ماذا كان من الممكن أن يغدو الحال لو لم يقم الحسين (عليه السّلام) بثورته؟ وما مصير أمّة الإسلام إذا ما قدّر للأمويّين دوام العبث باسم الخلافة؟ يكمن في تصوّرهم الآني لِما كان سيحدث، فقد تصوَّر البعض بأن يستمرّ الحكم الأموي في سياسته لإغراق جموع الأمّة في ماعون الشهوات الذي نَصَبوه لها، فتنحلّ هذه الأمّة، ويجد الفاتحون فرصة لاكتساح البلاد دون مقاومة، فيتشرّد المسلمون بدداً في الأرض.

إنّ مثل هذا التصوّر، في رأيي، يسيء إلى مفهوم ثورة الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه تصوّر قاصر ينتهي إلى مفهوم سيّئ مادّي بحت ذي أبعاد زمانيّة ومكانيّة محدَّدة.

زمانيّة؛ تنتهي باكتساح دولة الأمويّين، و(مكانيّة) في قيام دولة غريبة قد تجافي روح الإسلام في بقعة من أرض الشّام، أمّا التصوّر فيما ستؤول إليه العقيدة، وما سيكون عليه مصير الأمّة الدِّيني، فذلك لم يحظَ بأقلّ تصوّر لدى أغلبيّة مَن أرّخوا للثورة أو كتبوا لها.

فالثورة عندما قامت، استمدّت عزمها من روحيّة الشريعة، وكانت تهدف إلى إعادة بثّ هذه الروحيّة في نفس كلّ مسلم، ولو كان التصوّر يقف عند حدود إزالة دولة الأمويّين، لَما عنى الحسين (عليه السّلام) نفسه بهذه الثّورة، لكنّه (عليه السّلام) كان عارفاً بأنّه خاسر معركة ليكسب الإسلام الحرب؛ الحرب على الظلم عامّة، والانتصار على مسبّبات ضعف العقيدة، وأكبر دليل على ذلك، أنّه كان بإمكانه (عليه السّلام) أن يلجأ إلى نفس الأساليب التي لجأ إليها خصمه يزيد، فيشتري الأنصار، ويبذل المال لشراء الضّمائر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة