قرآنيات

الإنسان مضطرٌ في اختياره

صدر المتألهين الشيرازي

اعلم أنّ كلّ ما في عالم المُلك والملكوت له طباعٌ خاص، يصدر منه آثار وأفعال مخصوصة، وكلّ طبعٍ مسخّرٌ لفعل خاص، كالنار للتسخين والماء للتبريد، وله حدٌ محدود ومقامٌ معلومٌ لا يتعدّاه من أعلى شواهق عالم الأمر (وهي الموجودات الروحانيّة المجرّدة) إلى أدنى منازل عالم الخلق (وهي الموجودات الماديّة) إلّا الإنسان فإنّه مسخّرٌ للاختيار، فالاختيار له بمنزلة الفعل الطبيعي لغيره، لأنّ ذاته ليست ممّا يقف على حدٍ ومقام في جوهره وهويّته، بل ينقلب من طور إلى طور، ومن نشأة إلى نشأة.

وسِعة هذه التقلّبات في الإنسان الكامل أكثر وتخالف أطواره أشدّ، وقوسه الصعوديّة أعظم، وارتقائه إلى عالم الملكوت أعلى وأتمّ، فلذلك قيل: "إنّ الإنسان مضطرٌ في صورة مختار".

فالمختاريّة مطبوعة فيه، اضطراريّة له، وهو مجبول عليه (أي على الاختيار) كما جُبل طبعُ الماء والنار والخبز واللحم على التبريد والتسخين والتغذية، فهو (أي الإنسان) من لدن أوّل تكوّنه النُطفي إلى تمام بلوغه الحسّي واستعداده النطقي لم يكن لاختياره في الترقّيات والتقلّبات مدخل (مثلاً انتقاله من النُطْفَة إلى العَلَقَة فإلى المُضْغَة... أو من الجنين إلى الطفل فإلى الولد والصبي)  حتّى بلغ إلى مرتبة حيوان تام الحيوانية، منتصب القامة، عريض الأظفار، بادي البشرة.

ثمّ من عند كونه عاقلاً مكلّفاً ينتقل باختياره الذي هو عين اضطراره ويتطوّر بأطواره في مراتب افتقاره، فهو إمّا أن يرتقي إلى أعلى علّيين، أو يتردّى إلى أسفل سافلين، أو يقع في أحد أوساط المتوسّطين حسب ما يشاء الله وكتب في كتابه المبين:

{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)} (هود) الآية {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (هود: 108) الآية

أمّا السعيد فلا يختار إلا عمل أهل السعادة، وأمّا الشقي فلا يختار إلّا عمل أهل الشقاوة {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (السجدة).

ومع ذلك فلا اعتذار لأحد في الشريعة، بل الجميع خوطبوا بخطاب واحد: "اعملوا فكلٌ مُيسّرٌ لما خُلق له".

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة