مقالات

اقضِ بيني وبين مَن قتل ابني

 

السيّد عبد الحسين شرف الدين
دَعْ بكاء الأنبياء والأوصياء، ودَعْ عنك ما كان من ملائكة السَّماء، وقل لي هل جهلت نَوْح الجنِّ في طبقاتها، ورثاء الطّير في وَكناتها، وبكاء الوحش في فلواتها، ورسيس حيتان البحر في غمراتها؟ وهل نسيتَ الشّمس وكسوفها، والنُّجوم وخسوفها، والأرض وزلزالها، وتلك الفجائع وأهوالها؟ أم هل ذهلْتَ عن الأحجار ودمائها، والأشجار وبكائها، والآفاق وغبرتها، والسماء وحمرتها، وقارورة أمّ سلمة وحصيّاتها وتلك السّاعة وآياتها؟
قال ابن حجر في (الصواعق): «وممّا ظهر يوم قتله من الآيات أيضاً: أنَّ السّماء اسودَّت اسوداداً عظيماً حتّى رُؤيت النّجوم نهاراً. قال: ولم يُرفع حجر إلَّا وُجد تحته دم عبيط. وقال: ونقل ابن الجوزي عن ابن سيرين: إنَّ الدُّنيا أظلمت ثلاثة أيام ثمَّ ظهرت الحمرة في السّماء. ".." إلى آخر ما هو مذكور في كتب السُّنّة، ممّا يدلُّك على انقلاب الكون بمقتله عليه السلام، وأنَّه قد بكته السَّماء، وصخور الأرض دماً».


ولو فرض خصمنا جاهلاً بما في تلك الكُتُب ممّا سَمِعْتَ بعضه، فهل يجهل ما قام به ابن نباتة خطيباً على أعواده، وتركه سنَّة لخطباء المسلمين في الجمعة الثانية من المحرَّم في كلِّ سنة، وإليك ما اشتملت عليه تلك الخطبة -بعين لفظه-:
«أيُّها النّاس إنّ شهركم هذا استُشهد فيه الحسين بن عليُّ بن أبي طالب فنال بذلك أعلى المفاخر والمراتب، وكان ذلك في أرضٍ يُقال لها كربلاء، أحلَّ الله بقاتله كلّ كرب وبلاء.... [و] قال: بَكَت لموته الأرض والسَّماوات، وأمطرت دماً، وأَظلمت الأفلاك من الكسوف، واشتدَّ سواد السَّماء ودام ذلك ثلاثة أيّام، والكواكب في أفلاكها تتهافت، وعظمت الأهوال حتى ظُنَّ أن القيامة قد قامت. [ثمّ] قال: كيف لا وهو ابن السيدّة فاطمة الزّهراء عليها السلام وسبط سيِّد الخلائق دنيا وآخرة، وكان عليه الصّلاة والسّلام من حبِّه في الحسين يقبِّل شفتيه، ويحمله كثيراً على كتفيه، فكيف لو رآه ملقًى على جنبَيه، شديد العطش والماء بين يديه، وأطفاله يصيحون بالبكاء عليه؟ لصاح عليه الصَّلاة والسّلام، وخرَّ مغشيّاً عليه. [ثمَّ] قال: فتأسَّفوا رحمكم الله على هذا السِّبط السَّعيد الشَّهيد، وتسلُّوا بما أصابه عمّا سلف لكم من موت الأحرار والعبيد، واتَّقوا الله حقَّ تقواه. قال: وفي الحديث: إذا حُشِر النَّاس في عَرَصات القيامة، نادى منادٍ من وراء حُجُب العرش: يا أهل الموقف، غضُّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمَّد، فتَجُوز وعليها ثوب مخضوب بدم الحسين، وتتعلَّق بساق العرش، وتقول: أنت الجبَّار العدل، اقضِ بيني وبين مَن قتل ابني، فيقضي الله بينها وبينه. ثمَّ تقول: اللّهمَّ شفِّعني فيمَن بكى على مصيبتي، فيشفِّعها الله تعالى فيهم..»، إلى آخر كلامه.


فهل -بعد ذلك كلّه- تقول: إنَّ البكاء على مصائب أهل البيت بدعة، وهب أنَّك لا ترجو شفاعة الزَّهراء، ولا تبكي لِبكاء الأنبياء والأوصياء، فابكِ لِبكاء الشّمس والقمر، ولا يكن قلبك أقسى من الحجر، ".." إبكِ لِبكاء العسكر بأجمعه، فقد شهدت كُتُب السِّيَر ببكائهم، مع خبث أمّهاتهم وآبائهم. أيحسن منك -وأنت مسلم- أن يُصاب رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الفجائع، وتحلّ بساحته تلك القوارع، ثمّ تتَّخذها ظهرياً، وتكون عندك نَسْياً، ما هذا شأن أهل الوفاء، ولا بهذا تكون المواساة لسيِّد الأنبياء صلى الله عليه وآله. ثمَّ إنَّ الانقلاب الهائل، وتلك الأحوال المدهشة -من الخسوف والكسوف ورجفة الأرض، وظُلمة الأفق وتهافت النُّجوم، وحمرة السَّماء وبكاء الصَّخر الأصمِّ دماً- لم تكن إلَّا إظهاراً لغضب الله عزَّ وجلَّ، وتنبيهاً على فظاعة الخَطْب، وتسجيلاً لتلك النَّازلة في صفحات الأفق، لئلَّا تُنسى على مرِّ اللَّيالي والأيّام، وفيها مِن بَعْثِ النّاس على استشعار الحزن وادّثار الكآبة ما لا يَخفى على أُولي الألباب.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة