علمٌ وفكر

الإيديولوجية (2)

 

السيد موسى الصدر
يوجز رسول الله في أول الإسلام الفكرة التحولية للتاريخ إلى الكلمة التالية: قولوا لا إله إلاّ الله تُفْلحوا. علينا أن نعيد النظر في كثير من الأشياء، يا شباب، كلمة كنا نقولها بشكل عابر لكن نفكر بهذه الكلمة، تُفْلحوا يعني تصبحوا مُفْلحين. أنتم لستم في حالة تحسدون عليها. المجتمع المكّي، والمجتمع العربي بعده، لم يكن في أيام الدعوة في حالةٍ طيبة؛ كانت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الظروف الخلقية والظروف المالية، الظروف النفسية والظروف العقائدية كلها بصورة غير مرضية حتى سمّي المجتمع آنذاك أو سمّاه رسول الله بالمجتمع الجاهلي.
يقول لهم: قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا، يعني تحوّل المجتمع من الوضع الذي كان موجودًا فيه إلى مجتمعٍ آخر يسعد فيه الفرد وتسعد فيه الجماعة، [هذا] يحتاج إلى موقف الالتزام بالله الواحد.
ما معنى هذه الكلمة؟ له تفاصيل يحتاج إلى بحث طويل حول نفي الآلهة الأرضية أو ما نسمّيه اليوم بالأصنام، تحطيم أصنام المال، أصنام السياسة، أصنام الجاه أو ما نسمّيه بالإقطاع. المصطلح الديني لهذه الأمور والدعوة إلى وحدة الناس معتمدة على أساس الإيمان بالله الواحد. من هنا ألفت نظركم لبداية أو لمدخل الحديث، أنه هنا يبدو أن رسول الله يعتقد أنّ طريقة التطوير للمجتمع المكي إلى مجتمع سعيد إنما يكون بالعقيدة وليس بالاقتصاد فحسب. فإذًا، المطوِّر على الأقل في المرحلة المعينة التي كانت أمام الرسول.
فإذًا، المرحلة التي عاشها رسول الله من مرحلة إلى مرحلة يمكن في رأيه أن يكون هذا التحول عن طريق الإيديولوجية، عن طريق الإيمان، وليس عن طريق الاقتصاد فحسب. انطلاقًا من هذه النقطة، نتوسّع قليلًا، أن يكون سبب التطور في المجتمعات، كما تقول المادية التاريخية، أن يكون السبب الظروف الاجتماعية المحيطة في المجتمعات مبالغة في تأثير الاقتصاد. لا شك أنّ الوضع الاقتصادي يلعب دورًا كبيرًا في حياة الإنسان، ولكن أن نقول الوضع الاقتصادي هو كل شيء في حياة الإنسان مبالغةٌ في الأمر.
أرجو الوقوف أمام هذه الكلمة، الإنسان يتأثر بالعامل الاقتصادي دون شك، ولكن العامل الاقتصادي ليس هو جميع المؤثرات. هناك مؤثرات أخرى في حياة الإنسان، ولذلك ترى إنسانًا من طبقةٍ اقتصاديةٍ واحدةٍ مع إنسان آخر يختلف معه في التفكير.
ونحن شاهدنا في الأنظمة الاقتصادية الحديثة أمثلةً كثيرةً عنه، فوجدنا في أبناء الثورة السوفياتية تفاوتًا كبيرًا، لا في قادة الثورة فحسب، لأن قادة الثورة هم أبناء ما قبل الثورة، لكن حتى في أبناء الثورة وجدنا خلافاتٍ عقائديةً ضخمةً أدّت إلى التصفيات والقتل والسجن والإبعاد، كما حصل مع الثورة الفرنسية أو مع أي ثورة أخرى...
فلو كانت الطبقية أو وحدة الطبقة، هي التي تكوّن الفكر الموحد وتنفي الصراع الطبقي في التاريخ، لما حصل ذلك. تاريخهم مليء، بالأمس كان ستالين وكان فيريام وكان ماريكوف، وكانت مؤثرات أخرى وشخصيات أخرى، وربما تعرفون أكثر منّي في هذا الموضوع.


والعكس أيضًا هو الصحيح، يعني الإنسان يجد في الطبقات الاقتصادية المتفاوتة تشابهًا في التفكير. روبرت أون البريطاني، الذي يسمّى بأبي الاشتراكية في العالم، كان رأسماليًا يملك الكثير من أسهم المصانع أو يملك مصنعًا، هو الذي وضع أولًا قوانين لتحديد ساعات العمل، ولمنع الأطفال من العمل، ولإعطاء بعض حقوق معينة للعمال، وهو رجل ليس من أبناء الطبقة البروليتارية كما يسمونها.
فإذًا، ليس العامل الاقتصادي وحده هو الذي يكوّن الفكر، ويكوّن الإيديولوجية، ويكوّن المصالح، وخطّ السلوك وغير ذلك... بل هناك عوامل عديدة، لا شك أنّ الإنسان وليد بيئته، يؤثر فيه عامل الاقتصاد، كذلك تؤثر فيه عوامل أخرى. من جملة العوامل المادية الأخرى: درجة الحرارة والرطوبة؛ القرب من البحر والبعد من البحر، من جملة العوامل؛ العوامل العائلية أو ما يسمونها بـ génétique. ونحن لا يمكننا أن نتجاهل عامل الوراثة أيضًا.
ومن جملة العوامل المؤثرة: الدعوات الروحية. نحن لا يمكننا أن نقول إن المسيح مثلًا لم يؤثر في تاريخ العالم، أو أن محمدًا لم يؤثر في تاريخ العالم. ومهما حاولنا أن نعطي تفسيرًا ماديًا لمحمد ولحركة محمد فقد بالغنا وتصرفنا في التاريخ حسب ذوقنا وحسب كيفنا ورغبتنا، بل حركته لم تكن حركة اقتصادية محضة، وإنما كانت حركة روحية تؤثر في خلق الاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، كما أنه طوّر الاقتصاد المكّي أو المدني في الدرجة الأولى.
لا يمكننا أن نفسر جميع العوامل المحركة في التاريخ بعامل اقتصادي محض، بل هناك عوامل أخرى ترجع لطموح الإنسان، لأهداف الإنسان، للرغبات السامية لدى الإنسان [التي] أثرت في تطوير المجتمعات من هنا أو هناك.

 

ترون أن البحث ليس مختصرًا أو موجزًا ولكني ذكرته كفرد، تكلمت عن الفكرة على أن تُدرس أيضًا في لقاء طويل بالنسبة للقاءاتكم، وهكذا بالنسبة إلى المنطق، نحن نعرف أن المنطق الديالكتيكي أو المنطق القديم والديالكتيكي أيضًا قديم أو ما نسمّيه بمنطق أرسطو.
أساليب التفكير، علماء المسلمين أيضًا استعملوا هذا المنطق أو ذاك أسلوب للتفكير، رأي في المنطق، بإمكانكم أن تستندوا [إلى] هذا المنطق أو ذاك، إذا اقتنعتم بهذا أو ذاك، في ذهنية التفكير.
من باب المثل: من أسس منطق الديالكتيك أصل التضاد حتمًا تعرفون... له وجود فعلي يسمّى بـ Thèse، وهذا الموجود، أو هذه الظاهرة تنمو خلالها، عكسها وضدها؛ ذلك الذي نسمّيه بـ Antithèse، ينمو Antithèse على حساب Thèse في صراعٍ خفيٍّ مرير، ولكن ماذا نعمل؟ الطبيعة Thèse قديم في دور الفناء في حالة الدفاع، Antithèse شاب في حالة الهجوم. تدرجيًا يقضي Thèse على Antithèse فينتهي Thèse. عند ذلك Antithèse أيضًا من خلال الصراع اكتفى، تغيّر، جرّب صار محنّكًا، صار ناضجًا، تفاعل Thèse وAntithèse يؤدي إلى أنّ الحكم بالمستقبل ليس لـ Antithèse. Antithèse متطور نسمّيه بـ Synthèse فيحكم بالمستقبل Synthèse مع تغيرات التي جعلت من Thèse Antithèse.
هذا أحد المبادئ الأربعة لمنطق الديالكتيك: أصل التضاد.
نرجع إلى الفلسفة الإسلامية، وأنا إن شاء الله سأتحدث في لقاء آخر معكم أنني عندما أقول: الفلسفة الإسلامية أقصد فلسفة المسلمين لا الفلسفة الإسلامية المقدسة، يعني ليس مقصودًا الإيديولوجية الإسلامية التي هي [...] محمد، إنما علماء المسلمين قالوا: آراء المسلمين على ضوء الإسلام.


في الفلسفة الإسلامية، مبدأ باسم أنّ كل موجود مؤلف، كل موجود مادي؛ طبعًا، مؤلف من صورة ومن مادة، أو بتعبير آخر من هيولى والصورة.
الصورة هي الحالة الفعلية للشيء تمامًا مثل Thèse، الصورة هي الحالة الفعلية للشيء شيئية الشيء بصورته. تسمع بالفلسفة الإسلامية كثيرًا هذه الكلمة، حالة الفعلية هي الصورة فسميناها Thèse، وكل شيء يحمل حالة استعداد للصيرورة، يعني بإمكانه أن يصير شيئًا آخر، هذا التمكن والإمكانيات في ذات الشيء يسمّى بالقوة، يسمّى بالهيولى، يسمّى بالمادة. والموجود في حركة دائمة بين الصورة والمادة. فمع كل مرحلة ومع كل لحظة الصورة تتحول إلى المادة فتصبح المادة صورتين وتحمل مادةً أخرى وتتحول؛ وهكذا بطريق التطور كما يقول صدر الدين الشيرازي، وبطريق الخلع واللبس مثلما يقول ابن سينا.
أذكر لكم مثل البذرة، حبة قمح، حبة قمح ما هي؟ حبةٌ جامدةٌ لا تتحرك شيئيتها بأنها قمح، صورتها بأنها قمح، أو قلْ Thèse. قمح، ولكن حبة قمح تصلح لأن تتحول إلى سنبلة، إلى نبتة، تصلح أليس كذلك؟ ضَعْ شروطًا مناسبة تكبر. فإذًا، حبة قمح له شيئية أخرى غير بحصة، غير الحصاد، لها شيئية ثانية. هذا الشيء الثاني يسمونه مادة أو هيولى، يعني إمكان الصيرورة، ممكن تحوّل الحبة إلى السنبلة، هذا نسميه بالقوة، بالهيولى. ازرعْ حبة قمح بسرعة تتحول الصورة، عندها تطلع، الجذور تبدأ تنتشر. الصورة تتحول مع كل لحظة، مع كل آن، حتى أقل من آن، لأن الحركة منتقلة.


وهنا نصل لمبدأ ثانٍ في مبدأ الديالكتيك: مبدأ رفع النقيضين وجمع النقيضين، الاتصال الذي كان يقوله فلاسفتنا، نفس الموضوع بشكل آخر وهكذا...
قصدتُ من طرح الموضوع أن مبادئ الديالكتيك توجد بشكل آخر في صميم الفلسفة أو المنطق المستعمل سابقًا. فإذًا، بإمكان المفكّر الإسلامي أن يختار منطقًا هنا وهناك، وانتخاب الفكر الإسلامي بخضوعه لمنطق أرسطو أو بخضوعه لفلسفة idéalisme تجنٍّ. بإمكان الفلسفة الإسلامية أن تعتمد منطق أرسطو، وبإمكانها أن تعتمد منطق الديالكتيك المنطق الجدلي في كيفية التفكير، وهنا نصل إلى أنه في أمور علمية فلسفية على العلم أن يجيب عنها أو أن يتخذ فيها موقف، ولا نطلب من الإسلام موقفًا لاختيار هذا أو ذاك.
فإذًا، الإسلام مبدئيًا في موقفه وتفسيره للتاريخ لا يقبل أن يُقال أنّ الاقتصاد هو المحرك الوحيد بل يقول هناك أشياء أخرى وهذا بحاجة إلى بحث، هذه النقطة التي أجّلتها لما بعد تفاصيل الموضوع. فبشكل مبدئي ليس الاقتصاد هو المحرك لكل شيء، فهناك عوامل كثيرة تُحيط بالإنسان، تحيط بالحاكم، تحيط بالشعب، تؤثر في تطوير التاريخ.
وعلى صعيد المنطق، ليس المنطق الإسلامي هو منطق أرسطو، بل استُعمل منطق أرسطو من قِبل بعض علماء المسلمين. كما استُعمل المنطق الجدلي بأصوله المتنوعة من قِبل علماء المسلمين الآخرين، وبإمكاننا نحن [أن] نعتمد هذا أو ذاك إذا اقتنعنا بهذا أو ذاك، ولا مانع من ذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة