قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

هل لله سبحانه عرشٌ ماديّ؟


الشّيخ جعفر السبحاني
إِنَّ من صفاته سبحانه كونه مستوياً على عرشه، وقد جاء هذا الوصف في كثير من الآيات، فقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم اثنين وعشرين مرة، كما ورد لفظ «عرشه» مرة واحدة، والكل راجع إلى عرشه سبحانه، إلاّ آيتان هما: قوله سبحانه: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[النّمل: 23]، وقوله سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}[يوسف: 100]، كما ورد الاستواء اثني عشر مرة، وهي ما عدا ثلاث آيات، راجعة إلى استوائه سبحانه على العرش.
وقد ادعى أَهل الحديث، وتبعهم الأشعري، أَنَّ الآيات ظاهرة في أنَّ له سبحانه عرشاً وأنه مستو عليه، غير أَنَّ الكيف مجهول. وقد أخذ المشبّهة بما ادعاه أهل الحديث من الظاهر من دون القول بكون الكيف مجهولًا.
أثارت هذه المسألة في الأوساط الإِسلامية ضجيجاً وعجيجاً بالغين بين الصّفاتية والمؤوّلة. ونحن نقول، لو أنَّ الباحثين أمعنوا النَّظر في هذه الآيات مجرّدين عن كلّ ما يحملونه من العقائد الموروثة، لوقفوا على مفادها، وأنها لا تهدف إلى ما عليه الصفاتية من أنَّ له سبحانه عرشاً وسريراً ذا قوائم، موضوعاً على السماء والله جالس عليه، والكيف إمَّا معلوم أو مجهول، ولا على ما عليه المؤوّلة من تأويل الآية، بمعنى حاجة الآية إلى حملها على خلاف ظاهرها، بل القرائن الموجودة في بعض هذه الآيات، تُضفي على الآية ظهوراً في المعنى المراد من دون مسّ بكرامة التنزيه، ولا تَعَمّد وتَعَمّل في التأويل، فالآيات لا تحتاج إلى التأويل، أي حملها على معان ليست الآيات ظاهرة فيها. لا شك أَنَّ العرش بمعناه الحرفي معلوم لكلّ أحد بلا شبهة.


قال ابن فارس: «عرش: العين والراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك. من ذلك العرش، قال الخليل العرش: سرير المَلِك. وهذا صحيح، قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ}. ثم استعير ذلك، فقيل لأمر الرجل وقوامه: عرش. وإذا زال عنه قيل: ثلّ عرشه. قال زهير:
تَدَاركْتُما الأَحلافَ قَدْ ثلّ عَرْشَها وذبَيانَ إذْ زلّتْ بأقْدامِها النَّعْلُ»
كما أنَّ الاستواء معلوم لغة، فإِنَّه التمكّن والاستيلاء التام. قال الرَّاغب في مفرداته: «واستوى يقال على وجهين: أحدهما يسند إليه فاعلان فصاعداً. نحو: استوى زيد وعمرو في كذا، أي تساويا. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ}[التوبة: 19]. والثاني أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم: 6]، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ}[المؤمنون: 28]، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}[الزخرف: 13]، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}[الفتح: 29]. ومتى عُدّي بـ «على»، اقتضى معنى الاستيلاء، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
والذي نركّز عليه، هو أنَّ الاستواء في الآية ليس ظاهراً في معنى الجلوس والاعتماد على الشيء، بل المراد هو الاستيلاء والتمكن التامّ، كناية عن سعة قدرته وتدبيره. وقد استعمل الاستيلاء بهذا المعنى في غير واحد من أبيات الشّعر. قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولي إمرة العراق:
ثُمَّ اسْتَوى بِشْرٌ على العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْف وَدَم مِهْراقِ


وقال آخر:
فَلمَّا عَلَوْنا وَاستَوَيْنا عَلَيْهِم تَرَكْنَاهُم صَرْعَى لِنَسْر وكاسِرِ
إِنَّ المقصود هو استيلاء بِشْر على العراق وقوم القائل في البيت الثاني على العدوّ، وليس العلوّ ها هنا علواً حسيّاً بل معنوياً.
إذا عرفت ذلك فنقول، لو أخذنا بالمعنى الحرفي للعرش، كما هو المتبادر من قوله سبحانه: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[النمل: 23]، فيجب أنْ نقول إِنَّ لله سبحانه عرشاً، كعروش الملوك والسلاطين، وعند ذلك، يتمحض المراد من استوائه عليه، بالجلوس عليه متمكّناً.
وأما لو نبذنا هذا المعنى، وقلنا بأنَّ المراد من الظاهر هو الظهور التصديقي، وهو المتبادر من مجموع الآية بعد الإمعان في القرائن الحافة بتلك الجملة، يكون المراد من الآية هو الكناية عن استيلائه على مُلكه في الدّنيا والآخرة، وتدبيره من دون استعانة بأحد.
والجُمَل الواردة في كثير من الآيات الحاكية عن استوائه على العرش، تدلّ على أنَّ المراد هو الثاني دون الأوَّل، وتثبت بأنَّ المقصود بيان قيامه بتدبير الأمر قياماً ينبسط على كلّ ما دَقَّ وَجَلّ، وأنّه سبحانه كما هو الخالق، فهو المُدَبّر أيضاً.
وقد استعان ـ لتبيين سعة تدبيره الّذي لا يقف على حقيقته أحد ـ بتشبيه المعقول بالمحسوس، وهو تدبير الملوك والسلاطين ملكهم متّكئين على عروشهم والوزراء محيطون بهم، غير أَنَّ تدبيرهم تدبير تشريعيّ وتقنينيّ، وتدبيره سبحانه تدبير تكوينيّ.


ويدلّ على أَنَّ المراد هو ذلك أمران:
الأمر الأول: إنَّه سبحانه قد أتى بذكر التدبير في كثير من الآيات بعد ذكر استوائه على العرش، فذكر لفظ التدبير تارة، ومصداقه وحقيقته أخرى. أما ما جاء فيه التدبير بلفظه، فقوله سبحانه:

أ ـ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[يونس: 3].
ب ـ {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}[الرّعد: 2].
ج ـ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ}[السجدة: 4، 5].
ففي الآية الأولى، يُرَتِّب سبحانه التدبير على قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْش}، ليكون المعنى «استوى على عرش التّدبير»، كما أنَّه في الآية الثانية بعد ما يذكر قسماً من التدبير، وهو تسخير الشمس والقمر، يُعطي ضابطة كلية لأمر التدبير، ويقول: {ويُدَبّرُ الأَمْرَ}. وعلى غرار الآية الأولى، الآية الثالثة.
وأما ما جاءت فيه الإِشارة إلى حقيقة التدبير من دون تسميته، فمثل قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف: 54].
فقوله: {يُغْشِي اللَّيل النَّهار} [في] الآية، إشارة إلى حقيقة التّدبير وبيان نماذج منه، ثم أتْبَعَه ببيان ضابطة كلية وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}[الأعراف: 54]، أي إليه يرجع الخلق والإِيجاد وأمر التّدبير.
وقس على هاتين الطائفتين سائر الآيات، ففي الكلّ إلماع إلى أَمر التّدبير، إمّا بلفظه أَو ببيان مصاديقه، حتى قوله سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }[الحاقة: 13 - 18]. فالعرش في هذه الآية هو عرش التّدبير وإدارة شؤون الملك، يوم لا مُلْك إلاّ ملكه. قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: 16].
وقال سبحانه: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[الأنعام: 73].
فهذه الآيات تعبِّر عن معنى واحد، وهو تصوير سيطرة حكمه تعالى في ذلك اليوم الرّهيب. قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[الأنعام: 62].
وقال سبحانه: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}[الكهف: 44].
فالمتدبّر في هذه الآيات، يقف على أنها تهدف إلى حقيقة واحدة، وهي أنَّ خلق السموات والأرض، لم يعجزْه عن إدارة الأمور وتدبيرها، وأمّا جلوسه على العرش بمعناه الحرفي، فليس بمراد قطعاً.
 

الأمر الثاني: إنه قد جاء لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله، وهو رفع السموات بغير عمد، أو خلق السَّموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أو ما يشبه ذلك، فإِنَّ ذاك قرينة على أنَّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني، بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله. فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد، لا شريك له أيضاً في المُلك والسلطة، ولأجل ذلك، يحصر التدبير بنفسه، كما يحصر الخلق بها ويقول: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف: 54].
فالجمود على ظهور المفردات، وترك التفكّر والتعمّق، ابتداع مفض إلى صريح الكفر. حتى إنَّ من فسِّر قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11] بأنَّ لله مِثْلاً، وليس كَمِثْلِهِ مِثْل، وقع في مغبة الشّرك وحبائله.
والاستناد إلى الأحاديث التي يرويها ابن خزيمة ومن تبعه، استناد إلى أمور جذورها من اليهود والنَّصارى. وقد عرّف الرازي ابن خزيمة وكتابه المعروف بـ «التوحيد» بقوله: «واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة، أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} في الكتاب الذي سماه بـ «التوحيد»، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها. وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقِصَ العقل».


ولأجل ما في التشبيه والتجسيم، والقول بالقدر والجبر، من مفاسد لا تحصى، قال الدكتور أحمد أمين:
"وفي رأيي، لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم، وشَلّهم الجبر، وقعد بهم التواكل».
أقول: وفي رأيي، لو سادت الحرية الفكرية على المسلمين، وتجرد المسلمون عن كل رأي سابق ورثوه من أهل الحديث، ونظروا إلى الكتاب العزيز، وتمسكوا بالسنَّة الصحيحة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق أهل بيته (عليهم السَّلام)، الذين عرّفهم الرسول في الحديث المتواتر (حديث الثقلين)، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي.
هذا، وعلى ضوء ما قررنا من الضابطة والميزان، تَقْدِر على تفسير ما ورد في التنزيل من الوجه والعين واليدين والجنب والإِتيان والفوقية وما يشابهها، دون أن تمسّ كرامة التنزيه، ومن دون أنْ تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة، والإِجراء، على النّمط التصديقيّ، لا المعنى الحرفي التَّصوريّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة