قراءة في كتاب

قراءة في كتاب "التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات" (1)

"حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته" 
المؤلفة: إيمان شمس الدين.
قراءة وتقويم: ألباب الخليفة.
مقدمة
من المؤلفات الهامّة للغاية الصادرة حديثًا، في مجال التغيير والإصلاح، وقراءة مسارات النهضة في تقاطعاتها بالمعرفة، والمجتمع، وقضايا النكوص ومعارك الوعي في أطوار استكمال مهامه نحو التجديد، كتاب الباحثة إيمان شمس الدين، "التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات"..
من اللحظة الراهنة في الواقع العربي والإسلامي، بتداعياتها المشوّشة، في ظلّ الاستبداد الممارس على الشعوب، والصورة المشوّهة في فهم الدين الإسلامي لدى الذاكرة الجمعية المجتمعية، ما أدىّ لظهور دعوات لتحييده، والتنازل عنه، بوصفه مادة وفعل عنفي خطير، واستحضار صراعات العولمة والنظام العالمي الجديد، في ظل الهيمنة، بدت لنا أهمية قراءة المادة المعرفية التي تضّمنها هذا الكتاب، لفهم ما يجري من انتكاسات في ذواتنا التاريخية والحاضرة، بالوقوف على أهم محاوره الفكرية والنقدية، وآليات اشتغاله في دراسة موضوعة الإصلاح، وتشابكاتها مع أنماط السلطات والنخب والجماهير، وبالصورة الحقيقية لخطاب الخالق، ودلالاته. 
 يأتي هذا المؤلَّف من باحثة متخصصة في العلوم الإنسانية، لها أعمال وكتابات كثيرة منشورة، ومشاركات بحثية في مؤتمرات عديدة، فوجدت أهمية في دراسة "طبيعة التغيرات الاجتماعية المتفاعلة مع البعدين الديني والسياسي" وسط "ظروف سياسية ودينية يُحيط بها لغة الحروب العسكرية والباردة، وتسلّط أنظمة مستبدة، وتآمر خارجي، للإفقار والتدمير وتغيير معالم الهويات الإسلامية والحضارية" لتأسيس وصياغة مشروع الإصلاح والحفر في طبقاته وتحديد أسباب اخفاقاته ومآلات نجاحاته، لنقف على أهم المميزّات في الرؤية المطروحة، التي يُراد بها انتشالنا من حالات التشظيّ والانقسامات.
والباحثة "إيمان شمس الدين" مثلما يُلمح في مقدّمتها، تؤمن بوظيفة المثقّف في تجاوز دائرة التخصّص الأكاديمي المحدود، للتفاعل مع سائر قضايا عصره، وإن أفدنا من عتبة عنوان الكتاب "التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات" اتساع الموضوعة المقاربة عن تخصصها، لأن الإصلاح لا يمكن أن يقف عند ممارسات معينة وإنما هو مفهوم يتجسّد في مجالات معرفية متنوعة، دينية، فكرية، إنسانية، إعلامية، سياسية، مما يجعلها تنتصر في رهان المعالجة والمواجهة، في تعميق اشتغالها، وصلاته بواقع يرزح بأثقال الألم والوهن، لتحويله لمصدر فيض مُنتج للمعنى الإنساني في مستوى القيم المعرفية والحضارية. 


بنية الكتاب
جاء الكتاب الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2019م. مشتملاً على 266 صفحة من الحجم الكبير، موّزعًا على ثلاثة فصول متماسكة ومتفرّعة إلى مباحث متعددة، اقتضتها طبيعة التناول وتشابك قضاياه، فخصّصت أولها لبحث "عناصر التغيير الداخلي والخارجي، وأهمّ معوّقات التغيير" و خصّصت الفصل الثاني "للإصلاح ومعوّقات النهوض"، أما الثالث "الإعلام ودوره في التغيير وحركة الإصلاح" فأحاطت الباحثة فيه بالمكوّن الإعلامي والخاصيّة الاتصاليّة على مستوى الأدوار والوظائف المتفاعلة مع الإصلاح. وبمنهجية متكاملة وجامعة، قاربت موضوع البحث، بالتأصيل لعمليّة التغيير، ووضع روابط ارتكازية جامعة للبعدين السماويّ والأرضي، من أجل الكشف عن جوهر الإصلاح المبتغى، المراهن على دور الشعوب وحراكها أولاً، دون إغفال الدور الفكري المتحقق بالنظريات ومعالمها، وجماعة النخب والقادة المؤثرين بصورة خاصة في تغذية أي مشروع حضاري ودفعه.
 

مع الكتاب
  قسمّت المؤلفة الفصل الأول إلى محورين: في الأول تطرّقت إلى عناصر التغيير الداخلي، والثاني عناصر التغيير الخارجي، كمنطلقات وعوامل مولّدة لشرارة العمليّة التغييرية، وموقدة لجذوتها وحاملة لشعلتها الإصلاحية، وفق خطّة طريق واضحة المعالم يسيرة الأسس، رفيعة الأهداف والغايات..
وإن ثورات ومناهضة الأفراد والجماعات، لأنظمة الحكم، ليست مجرد وسيلة ابتداعية للخروج من حالة هضم حقوقها، بل يتعيّن لإحراز نجاحاتها، اعتبارها، سببًا ووسيلة ومقصدًا، "وهو ما يتطلب من الشعوب الراغبة في التغيير ونخبها أن ترسم استيراتيجية بناء جديدة للدولة تكون التربية والتعليم مرتكزاَ أساسيًّا فيها وهي الثورة الحقيقية التي تنتج واقعًا جديدًا". 
التربية والتعليم وهدف التوحيد
        وتلفتْ "شمس الدين" لموضوعة التوحيد ذي الدينامية المؤثرة، في تأسيس أفراد محكومين في مدى سيرورتهم وتطوّرهم، للخالق، لا للمخلوق، بإبراز وتعميق العقل الواعي بالوجود، الناشد ضمن حريته ووعيه وفطرته المجبولة لله تعالى وكماله، وتقول بأن "الاستبداد يقوم على ركيزتين معاكستين لميزتي النفس الإنسانية الحرية والوعي وهما القمع والجهل" وتضيف "التربية وسيلة لتحقيق الربوبية التامة، من خلال تقليل فرص هيمنة المستكبرين واتخاذهم أرباباً، وتمكين سلطة الله ومحوريته في الحياة" وترى افتقار عقل الفرد للنضج، بحيث لا يوازي حجم صراعاته الداخلية، وشيوع التعبّد السلبي كان متجذّرًا عبر التاريخ، ولايفتأ يغذّي الانحرافات والجرائم بضراوة.
مصادر المعرفة ودورها في تشكيل بنية التفكير


        وفق منطق تحليلي وتصنيفي تعدّد، "مصادر المعرفة في المدرستين الإسلامية والغربية، والأدوات الفاعلة في ترويجها، وهي، العولمة والتكنولوجيا والإعلام والتراث والتاريخ بكل مصادره، تؤطر البناءات الفكرية للأفراد وتنسحب على القطاعات السلوكية والمجتمعية، وخطوات ضبطها وتصويبها وغربلتها تُلزمهم بعمليّة التغيير بمعناها المشترك.
وتعرض الباحثة، "لأنساق الدين، الاعتقادي، والطقوسي، والمجتمعي"، وتقول "إن الشكل والوظيفة الاجتماعية للدين، مرتبطان بفهم شكل المجتمع وتطوره التاريخي، فدراسة الدين من خلال المحتوى التاريخي تساعدنا على رؤية وظائف الدين، إما على أنها عوامل مساعدة لتماسك المجتمع وإما عوامل مثيرة للصراع وذلك تحت تأثير الدين كاتجاه محافظ أو ثوري وهكذا".
من جهة ثانية تبيّن صور التناقض المرئية، في مفهوم الدين وتطبيقاته، العاكسة لقراءة بعض المرجعيّات الفقهية المُراد منها تطويع النصوص، واحتكار الفهم، لتسير باتجاه تأكيد رغبات السلطة، ومصادرة أفهام الأفراد وتساؤلاتهم، حتى ليبدوا غائبين عنها حتى الإمحّاء، فتمثيل الدين كجوهر البناء المجتمعي المطلوب، يقتضي الاعتراف بحق الآخر في طرح الأسئلة والمناقشة والاختلاف، وإن انتمى لخارج المؤسسة الدينية في تخصصه الأكاديمي، وتشجيع مسيرة المتعلمين الجدد، وعدم الوقوف على الماضي كمقدس ومعيق في مجمل الميادين الفقهية. وتقول "الدين كمحتوى إلهي معصوم لا إشكالية حقيقية فيه، لأن أصل وجود الدين وتشريعاته، جاء لخدمة الإنسانية وإرساء العدالة". 
الدين وظمأ الإنسان إلى المعرفة: 
        تطرح "شمس الدين" سؤالاً محوريًا، "ما هي حقيقة المعرفة، أي معرفة تلك التي تنظم حياة الإنسان وترشده للعيش الكريم؟" وتنتقد طرح "العلمانية" لدى بعض المنتمين للأوساط الفكرية النظرية، باعتبارها حلاًّ، لأنهم مدفوعين من تصوّر ضيّق يُخفي الآثار السيئة، إلى تلمسها بحمولاتها الثقافية والرمزية والهوياتية، دون مراعاة الفروق والخصوصيّة المميّزين لشعوبنا، وتعزو السبب "للتداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة للمشكلات التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني ليخنق الإنسان لا ليخدمه" وبالدراسة المتأنية المفصليّة لواقع تلك الميادين المتداخلة، المتكئة على فصلها وتمريرها في مصفاة النظر، لتبيين معايبها، واختراق أقنعتها، واعتبار الحقيقة مرهمًا لمداواة أمراضها لاحقًا، تقول "في ظل الفوضى وادعاء امتلاك الحقيقة لا يمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق، بل علينا امتلاك الجرأة والقدرة على مواجهة التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من أدوات منهجية، فلن أدعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ولكنني أقول يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك" أما جماعات النخبة الدينية والفكرية فلاجتذابهم نحو رغباتهم، يمكنهم الحياد بمعارفهم لحساب مصالحهم الخاصة. بحسب رؤية "شمس الدين".


       وتضع الباحثة مواجهة الذات كخطوة أولى للتشخيص وكشف الميولات والمحفزِّات والتأثيرات ومتعلقاتها، لتكييفها بحيث تتوافق مع النموذج الفطري الأخلاقي. وتوسّل أفراد مستقيمين "تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم" لخوض معترك "المواجهة والإصلاح. وتحملّ جميع التبعات على المستويات كافة." وتُعلّق "شمس الدين" امتلاك تلك القدرة بدرجة واضحة، تعين في الإجابة عن السؤال المحوري المطروح. والحقيقة التي تؤكد عليها باستمرار "حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته"
الادراك المعرفي وأدواته:
وتعود إلى الشهيد الصدر من خلال السنن الاجتماعية وضوابطها، وتفصّل في أنواعها وتبيين مدخليتها في عمليات التغيير الاجتماعي، وتقول "تقدم السنن قوانين عامة تحكم مسارات التغيير، لكن حكمها ليس حكمًا جبريًا، بل إرشاديًا وقانونيًا، لكن القانون يعتبر قانونًا تكوينيًا، وليس تشريعيًا". 
       وتتعرض عند الحديث عن التغيير بين الفرد والمجتمع، إلى آراء المفكرين والمدارس العريضة حول أصالة الفرد أو المجتمع، وتنتهي إلى نقد دوركايم ورؤيته المتطرفة تجاه أصالة المجتمع، وتخلص إلى كون "المنطلق من الداخل النفسي الفردي، ومن ثم تتسع دائرة النفس لتبدأ تأثيرها، في الأسرة ومن الأسرة تتسع لتنطلق إلى المجتمع" وتقول "إذا غير في نفسه ولم يستطع التغيير في أسرته، ولا مجتمعه، للتضاد في الأفكار والأهداف والقيم والمنطلقات، فإنه يركز على أسرته، وإن لم ينجح فهو مسؤول هنا عن النأي بنفسه، ويكون عمل ذا بعدين لا يخضع لسنن التاريخ التي تتطلب توافر بعد ثالث وهو الساحة الاجتماعية".
       وتوّجه بشأن معوّقات عملية التغيير الاجتماعي، من "غياب الأسئلة الكبرى المشكلة للتفكير، وحب الذات من زاوية النظر لمعنى الخير والشر للأفراد، وموروثات الآباء والأجداد، والتنميط الاجتماعي للجماعات والأحزاب، وثقافة التقليد، وعدم وعي ضرورة التغيير".
       وتستدعي للإجابة عن سؤال محوري مطروح سلفًا، أي معرفة للاختيار؟. حواضن المعرفة وفوارقها المدرسية المتواجدة، في، المذهب العقلي، التجريبي، الإخباري، الإشراقي، والأصولي، وترصد أدوات المعرفة وسبلها، وحقيقتها، وتحدد معالم المنهج السليم لإرادة المعرفة القائم على أسس: البحث عن المعارف على قاعدة الدليل والبرهان، التسليم بوجود ثوابت حقيقية واقعية وفهمنا لها ليس كاملاً، أو مطابقاً للواقع بل تتغير الأفهام بتطور أدوات المعرفة وتكامل القدرات العقلية البشرية مع التقادم، ضرورة معرفة وظيفة العقل وقدرته والإيمان بالذات وقدراتها، ومعرفتها، والتعامل مع الآخر بغض النظر عن الظروف الخارجية، يتم التعامل معه من موقع الندية المعرفية لا الذوبان المعرفي".
      وتبيّن أن "تحقيق الهدف من وجود الإنسان لا يتم إلا عن معرفة صحيحة، تدفعه لاختيار المنهج الأصلح، هذه المعرفة تطرح له عدة مناهج وطرق وأهداف، بالتالي يشخص هو بعد هذه المعرفة الأصلح من الأفسد ومن ثم تنبعث إرادته لاختيار السلوك المناسب وتطبيقه في الواقع الخارجي، لتحقيق هدفه والوصول إليه"  وتحذّر قائلة "الاتباع والتقليد القائمين على المألوف الاجتماعي أو جبره على الانتماءات العصبوية بكل أشكالها، يحولان الإنسان إلى مقلد فاقد للاختيار، وهو ما يجسد يوم القيامة بقانون البراءة، حيث تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ولا يبقى آصرة حقيقية تربط الإنسان بالآخر إلا آصرة المعرفة المرتبطة بالنوعية والأدوات" .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة