قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

​تمحيص الروايات الواردة في جمع القرآن (2)


السيد ابو القاسم الخوئي

3. تعارض أحاديث الجمع مع الكتاب: إن هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإن كثيرًا من آيات الكتاب الكريمة دالة على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وإن السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإن النبي - ص - قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا: أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبًا مجموعًا، لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف، والعسب، والاكتاف، إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءًا غير مجتمع، فضلًا عما إذا لم يكتب، وكان محفوظًا في الصدور فقط.

4. مخالفة أحاديث الجمع من حكم العقل! إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي (ص) بحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي - ص - وما يستوجبه ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لأن يكون القرآن موضعًا لعناية المسلمين، وسببًا لاشتهاره حتى بين الأطفال والنساء منهم، فضلًا عن الرجال.
وهذه الجهات هي:
1. بلاغة القرآن: فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف بالقرآن الذي تحدى ببلاغته كل بليغ، وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته، وإبطال حجته.
2. إظهار النبي (ص) رغبته بحفظ القرآن، والاحتفاظ به: وكانت السيطرة والسلطة له خاصة، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإن ذلك الكتاب يكون رائجًا بين جميع الرعية، الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.
3. إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس، وتعظيمه عندهم: فقد علم كل مطلع على التاريخ ما للقراء والحفاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة، أو بحفظ القدر الميسور منه.
4. الأجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه: هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، وبما يهمهم من مال وأولاد.
وقد ورد أن بعض النساء جمعت جميع القرآن.

أخرج ابن سعد في الطبقات: " أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع، قال: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله - ص - يزورها، ويسميها الشهيدة وكانت قد جمعت القرآن، أن رسول الله - ص - حين غزا بدرًا، قالت له: أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم وامرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة؟ قال: إن الله مهد لك شهادة..." (6)
وإذا كان هذا حال النساء في جمع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عد من حفاظ القرآن على عهد رسول الله (ص) جم غفير.
قال القرطبي: " قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي - ص - ببئر معونة مثل هذا العدد " (7).
وقد تقدم في الرواية " العاشرة " أنه قتل من القراء يوم اليمامة أربعمائة رجل على أن شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن، وقد كان له كتاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجومًا في مدة ثلاث وعشرين سنة، كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده.

روى زيد بن ثابت، قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نؤلف القرآن من الرقاع".
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " وفيه الدليل الواضح: أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله (8).
وأما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشرًا جدًّا، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين.
روى عبادة بن الصامت قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن "(9).
وروى كليب، قال: " كنت مع علي عليه السلام فسمع ضجتهم في المسجد يقرأون القرآن، فقال: طوبى لهؤلاء..." (10).
وعن عبادة بن الصامت أيضًا: " كان الرجل إذاهاجر دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا "(11).

ـــــــــــــ
6- الاتقان - النوع 20 ج 1 ص 125.
7- الاتقان - النوع 20 ص 122، وقال القرطبي في تفسيره ج 1 ص 50: وقتل منهم " القراء " في ذلك اليوم " يوم اليمامة " فيما قيل سبعمائة.
8- المستدرك ج 2 ص 611.
9- مسند أحمد ج 5 ص 324.
10- كنز العمال، فضائل القرآن الطبعة الثانية ج 2 ص 185.
11- رواه الشيخان، وأبو داود والترمذي، والنسائي، التاج: ج 2 ص 332.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة