علمٌ وفكر

الغيب والشهادة في الفيزياء والفلسفة (1)


السيد منير الخباز

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾
انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محاور ثلاثة:
•  موارد الآيات الباطنة لله تعالى.
•  أقسام الغيب.
•  التوفيق بين النصوص بالنسبة لعلم المعصومين بالغيب.

المحور الأول: موارد الآيات الباطنة.
إذا قرأنا قوله عز وجل: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، فما هو معنى هو الظاهر والباطن؟ هو الأول والآخر واضح، لا أول إلا وهو أول له، ولا آخر إلا وهو آخر له، لكن ما هو معنى هو الظاهر والباطن؟ الله تبارك وتعالى تتجلى عظمته في آياته، وتتجلى قدرته في آياته، وآياته قسمٌ منها ظاهرة وقسمٌ منها باطنة، قال تبارك وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، فآياته على قسمين: آيات ظاهرة، وآيات باطنة، لذلك لأن آياته نوعان ظاهرة وباطنة اتّصف سبحانه وتعالى بأنه ظاهر وباطن، يعني تجلت عظمته في آياته الظاهرة، وهذا التجلي ظاهر، وتجلت عظمته في الآيات الباطنة، لكن هذا التجلي باطن، يعني يحتاج إلى تأمّل، يحتاج إلى دراسة، يحتاج إلى تدقيق، ظهور آياته في الآيات الظاهرة لا يحتاج إلى تأمل، لكن ظهور عظمته في الآيات الباطنة يحتاج إلى تأمل، لذلك اتصف تعالى بأنه الظاهر وأنه الباطن. ما هي موارد آياته الباطنة؟ عندما ندقّق في آياته الباطنة، أين موارد آياته الباطنة؟ هنالك موارد ثلاثة: البطون في عالم المادة، والبطون في عالم العقل، والبطون في عالم الإمامة والحجّية.

المورد الأول: البطون في عالم المادة.
هل يوجد في عالم المادة ظاهر وباطن حتى نقول: لله آيات ظاهرة في عالم المادة ولله آيات باطنة في عالم المادة؟ أساسًا هل في عالم المادة أمور باطنة أم لا؟ نعم، في عالم المادة توجد أمور باطنة، كيف نعرفها؟ نرجع إلى تقسيم الفيزياء، عندنا ثلاثة أنواع من الفيزياء: الفيزياء التقليدية، فيزياء الكوانتوم، فيزياء الفراغ، كل نوع من الفيزياء يعدّ باطنًا لما قبله لأنه تفسيرٌ لما قبله، كيف؟
الفيزياء التقليدية - فيزياء نيوتن - تتكفّل تفسير الظواهر المحسوسة، الزلازل، الرعد، البرق، الكهرباء، الحرارة، الظواهر المحسوسة التي ينالها الحس تتكفل الفيزياء التقليدية بتفسيرها وتحديدها، لذلك قوانين الفيزياء التقليدية هي تفسيرٌ للعلاقة بين الأجسام وتفسيرٌ للكهرباء وللحرارة، تفسير للأشياء المحسوسة، قانون الجاذبية، قانون الحركة، قانون الجذب والدفع، كل هذه القوانين تفسّر لنا هذا العالم الذي نعيش فيه، العالم المحسوس، هذه تسمّى الفيزياء التقليدية.
ولكن هنالك باطنًا لهذا العالم، هذا العالم ظاهر، وهذا الظاهر له باطن، باطن هذا العالم المادي لا يمكن تفسيره بالفيزياء التقليدية، نحتاج إلى نوع آخر من الفيزياء يتكفل تفسير باطن هذا العالم، ما هو هذا العالم؟ الجسميات تحت الذرية، الإلكترونات، النيترونات، البروتونات، الكواركات، الجسيمات تحت الذرية التي لا ينالها الحس تعتبر باطنًا لعالمنا المحسوس، هذا الباطن لا يمكن إخضاعه للقوانين الفيزيائية التقليدية، لأن القوانين الفيزيائية التقليدية قوانين ثابتة، قوانين حتمية، لا تتخلف، قانون الجاذبية قانون ثابت حتمي لا يتخلف، قوانين الحركة قوانين ثابتة لا تتخلف، إذن لا نستطيع أن نفسّر الجسميات تحت الذرية بالقوانين الفيزيائية التقليدية، لأن الجسيمات تحت الذرية حالتها حالة اللاحتمية، لا يوجد فيها شيء حتمي، حالتها حالة الاحتمال والارتياب واللاحتمية، لأن حالتها تعني اللاحتمية إذن لا يمكن إخضاعها للقوانين الفيزيائية التقليدية لأنها قوانين حتمية وثابتة، لذلك احتجنا إلى نوع آخر من الفيزياء يتولّى تفسير باطن هذا العالم، يتولّى تفسير عالم الجسيمات تحت الذرية، وهو فيزياء الكم، فيزياء الكوانتوم، الذي اُكْتُشِف في الربع الأول من القرن العشرين.

أيضًا لا زال هنالك باطن آخر، كما أنَّ علم الفيزياء التقليدي لم يكتشف باطنًا واكتشفه فيزياء الكم، هنالك باطن لم يكتشفه فيزياء الكم فاحتجنا إلى نوع ثالث من الفيزياء، ألا وهو فيزياء الفراغ، ما هو؟ يقولون: الآن بحسب الحسابات الافتراضية نفترض نقطة مفرّغة من الطاقة والمادة، ما هو القانون الذي يحكمها؟ عالم المادة المحسوس تحكمه قوانين الفيزياء التقليدية، عالم الجسيمات تحت الذرية تحكمه قوانين فيزياء الكم، لكن إذا افترضنا بحسب الحسابات الرياضية نقطة مفرغة من الطاقة والمادة فما هي القوانين التي تحكمها؟ إذن لعالمنا باطن، ولذلك الباطن أيضًا باطن نحتاج أن نعرفه، طبعًا مسألة الفراغ بحسب المصطلح الفيزيائي ليست العدم، عندما يقولون نقطة مفرغة لا يقصدون عدمًا، العدم لا شيء، الفراغ شيء لا أنه لا شيء، لكن هذا الفراغ مفرَّغ من كثافة الطاقة والمادة يعبِّرون عنه بصفر الطاقة المتوسط، صفر الطاقة المتوسط - هذه النقطة المفرّغة من كثافة الطاقة والمادة - نحتاج في تفسيرها إلى نوع ثالث من الفيزياء نسميه فيزياء الفراغ.
إذن اتضح لدينا أنّ عالمنا المحسوس له باطن تولّى تفسيره فيزياء الكم، ولهذا الباطن باطن تولّى تفسيره فيزياء الفراغ، فكما أنّ في عالمنا المادي ظاهرًا فكذلك في عالمنا المادي باطن، وللباطن باطن، وكما أنَّ عظمة الله تعالى تجلّت في الظواهر المادية تجلّت أيضًا في البواطن، وتجلّي عظمته في الظواهر عبّر عنه بأنه ظاهر، وتجلّي عظمته في البواطن عبّر عنه بأنه الباطن، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾.

المورد الثاني: العقل الواعي والعقل الباطن.
علماء النفس ينصّون على هذا، وهذا شيء يراه الإنسان بالوجدان، كل إنسان يمتلك عقلين، يمتلك قوتين، عقل واع وعقل باطن، العقل الواعي وظيفته التحليل والتعمق عن وعي والتفات، أما العقل الباطن فهو يختزن الميول، ويختزن الرغبات التي لا تظهر على الإنسان، كيف؟ مثلًا: ترى إنسانًا مهندسًا، أو ترى أستاذ رياضيات، لكن هذا الإنسان عنده ميول نحو الفن، لو تجعله في الفن يخرج فنانًا، لكنه لا يمارس هذه الميول، الميول نحو الفن موجودة عنده لكن مختزنة في عقله الباطن، تظهر إذا أثارها مثير، إذا حصل مثير يثيرها تظهر عليه، لكن ما لم يحصل مثير فهي مختزنة ومستودعة في العقل الباطن، إذن الإنسان عنده عقلان: عقل ظاهر وعقل باطن يختزن ميوله.
لاحظ هذين العقلين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، ما هو الذي أخفى من السر؟ السر خاطرة يضمرها الإنسان بينه وبين نفسه، لكن هو ملتفت لها، عندي أسرار يعني عندي خواطر مضمرة أنا ملتفت إليها، لكن وراء هذا السر يوجد عقل باطن يختزن الميول من دون أن ألتفت إليه، ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، وورد عن الإمام أمير المؤمنين علي  : ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، إذن هناك عقل ظاهر وعقل باطن. العقل الظاهر مجلى للعظمة الظاهرة لله، والعقل الباطن أيضًا مجلى للعظمة الإلهية الباطنة، فهو تعالى ظاهرٌ في العقل الظاهر وباطنٌ في العقل الباطن.

المورد الثالث: مستوى الإمامة.
عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، طبعًا التفسير المعروف هو أنَّ النعم الظاهرة هي الرزق والمال والزوجة والأولاد... إلخ، والنعم الباطنة هي التوفيقات التي يحفّ الله بها الإنسان من دون أن يشعر بها، كثير من التوفيقات تحصل لك من دون أن تشعر بها، من دون أن تطلبها، هناك نعم باطنة. لكن ورد في بعض الروايات الشريفة: نعمه الظاهرة الإمام الظاهر ونعمته الباطنة الإمام الغائب، إذن على مستوى الإمامة أيضًا هنالك آيتان: آية ظاهرة، وهي الإمام الظاهر، وآية باطنة، وهي الإمام الغائب، وكلاهما مجلى لعظمته جلّ وعلا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة