سياحة ثقافية

مقام جعفر بن أبي طالب (1)


تُعرَف المنطقة التي تضمّ رُفات شهداء مُؤتة بـ «المَزار» نظراً إلى وجود مراقد أولئك الشّهداء ومزاراتهم،  وأبرز تلك المراقد هو مرقد جعفر الطّيار عليه السلام.
تقع مراقد الشهداء على بُعد 11 كلم من جنوب مدينة الكرك الأردنيّة، وعلى بُعد كيلومتر واحد إلى الشّرق من الشّارع العامّ المُؤدّي إلى بلدة المزار، وتتوسّط هضبة منفتحة ارتفاعها عن سطح البحر حوالي 1214م، ومن الشّمال يُلامس كتفَيْها ميدانُ معركة مؤتة الشَّهيرة.
وقد أُدرِجت أسماء الشّهداء الذين قَضوا في غزوة مؤتة في نصب جميل أُقيم عند مدخل البلدة، يتصدّرهم اسما الشهيدين زيد بن حارثة وجعفر الطيّار الذي نستهلّ التحقيق بنبذة عن سيرته.

بطاقة تعريف
هو جعفر بنُ أَبي طَالب بنِ عَبْدِ المُطَّلِب بنِ هَاشم، وَأُمّه فاطمةُ بنت أسد بن هاشِم، وُلد سنة 33 قبل الهجرة، وكان ثالث الأخوة من وُلْد أبي طالب، أكبرهم طالب، وبعده عقيل، وبعده جعفر، وبعده عليّ عليه السلام، وكلّ واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين.
وكانَ لِجعفَر مِنَ الْولد عبْد اللَّه (وهو زوج السيّدة زينب عليها السلام) وبه كان يُكَنَّى، وَمُحمَّد وعَوْن، أُمّهم أَسْمَاء بنْتُ عمَيْس. وُلدوا جميعاً لِجعْفر بِأرضِ الْحبشَة.
أَسْلَم جعْفر بن أَبي طَالب قبْل أَنْ يَدخل رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله دار الأَرْقَمِ ويَدعو فيها، ورَوى الشيخ الصَّدوق أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، كان يصلِّي ومعه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فَمَرَّ أبو طالب ومعه جعفر، فرآهما، فقال لجعفر: صِلْ جناح ابن عمِّك، فائْتَمَّ جعفر بالنَّبيّ مع أخيه، ونظر إليهما أبو طالب وانصرف مسروراً.
وعندما اشتدّ أذَى قُريش على المؤمنين، هاجر عددٌ منهم إلى الحبشة تحت حُكم مَلكها النّجاشي، وأمر النّبيّ صلّى الله عليه وآله أن يكون جعفر بن أبي طالب أميرَهم ورئيسَهم، لِيُنظّم أحوالهم ويُشرفَ على شؤونهم، عِلماً أنّه كان أصغر الرّجال المهاجرين سنّا،ً ولكنّه اختير لِرَجاحة عقله، وحِفْظه ما نَزَل من القرآن، وَسعَةِ معرفته بأحكام الإسلام.
ولمَّا شيّعه النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله، فقال: «اللَّهُمَّ الطُفْ بهِ في تَيْسيرِ كُلِّ عَسيرٍ، فَإنَّ تَيسيرَ العَسيرِ عَليكَ يَسيرٌ، إِنّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ. أَسْأَلُكَ لَهُ اليُسْرَ وَالـمُعافاةَ الدّائِمَةَ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ».
وفي الحبشة استطاع جعفر إفحام مبعوثَيْ قريش إلى النِّجاشي اللّذين طالبا بإرجاع المُسلمين إلى مكّة، وفي السَّنة السَّابعة للهجرة -بُعيد فتح حصون خيبر- عاد جعفر وعائلته إلى المدينة المنوَّرة فاسْتقْبلهُ النبيّ صلّى الله عليه وآله وقَبَّل ما بيْنَ عينَيْه، وضمَّهُ إليه واعْتنقَهُ، وقال: «مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أشدُّ فَرَحاً: بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَو بِفَتْحِ خَيْبَرَ».

مكانة جعفر
تظهر مكانة جعفر بن أبي طالب جليّاً في الأحاديث المتواترة عن رسولِ اللهِ صلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فعن أبي أيوّب الأنصاريّ، أنّ رسول الله صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قال لفاطمة عليها السلام: «إنّا أهلُ بيت أُعطينا سَبْع خصال لم يعطَها أحدٌ من الأوّلين قبلنا، ولا يدركُها أحدٌ من الآخرين غيرنا؛ نَبِيُّنا خير الأنبياء وهو أبوكِ، ووصيُّنا خير الأوصياء وهو بَعْلكِ، وشهيدنا خير الشّهداء وهو حمزة عمّكِ، ومَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث يشاء هو جعفر بن أبي طالب ابن عمّكِ، ومنّا سبطا هذه الأُمة، ومَهْديُّهم من ولدكِ».
وقال في حقّه كما ورد في كتاب (ذخائر العُقبى): «أمّا أنتَ يا جعفر، فيُشبه خَلْقُك خَلْقي وخُلُقك خُلُقي، وأنتَ آلي ومن شجرتي. وأمّا أنت يا عليّ، فَخَتني وأبو وُلدي، وأنا منك وأنت منّي..».
وفي المصدر نفسه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أيُّها الناس، إنَّ جعفر بن أبي طالب مرَّ مع جبريل وميكائيل وله جناحان عوَّضه الله عزَّ وجلَّ من يديه فسلَّم عليَّ»، ثمّ أَخبرهم كيف أَخبرهُ حين لَقِيَ المشركين، فاستبان النَّاس من بعد ذلك اليوم الذي أَخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّ جعفرا لَقيهم، فلذلك سُمِّي جعفر الطيار في الجنّة.
وفي حديث الباقر عليه السلام: «أوحى الله إلى رسوله صلّى الله عليه وآله: إنّي شكرتُ لجعفر بن أبي طالب أربع خصال؛ وهي أنّه لم يشرب خمراً، ولم يَكذب، ولم يَزْنِ، ولم يَعبُد صنماً قطّ».
وفي رواية (الكافي) عن الإمام الصّادق عليه السلام في حديث يوم القيامة: «إنّ جعفراً وحمزة هما الشَّاهدان للأنبياء بتبليغ الرسالة».

استشهاد جعفر بن أبي طالب
في العام الثّامن للهجرة، توجَّهَت سَرِيّة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل من المدينة المنوّرة لقتال الرّوم في بلاد الشّام، بعدما قَتَل أحدُ وُلاتهم مبعوثَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إلى هِرَقل. وكان أُمَراء هذه السّريَّة ثلاثة من الصّحابة، وهم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة. وعندما وصلوا إلى منطقة مُؤتة، اشتَبكوا مع جيش الرُّوم الذي فاق الجيش الإسلاميّ عدداً وعدَّة، وقاتلوا بكلّ بَسالةٍ فاستُشهد جعفر بعدما قاتل قتال الأبطال، وقُطِعت يداه لإسقاط اللّواء.
بعد استشهاده حمل اللّواء زَيْد بن حارثة الذي قاتل حتّى استُشهد، ثمّ حمله عبدالله بن رواحة إلى أن سَقَط شهيداً. ثمّ ارتأى المسلمون أن ينسحبوا تجنُّباً للخسائر البشريّة، ولا سيّما أنهّم يقاتلون بأرض العدوّ.

مشهد جعفر الطيّار
يقع مرقد ومقام الشهيد جعفر الطيّار في بلدة المزار الأردنيّة كما مرّ، ويعود تاريخ بنائه إلى عهد الفاطميِّين، وقد عُثر في متحف المزار -وهو بناء قديم من عهد المماليك- على ثلاث لوحات رخاميّة بيضاء مكتوبة بالخطّ الكوفيّ، كانت مُثبّتة على الضّريح تعود إلى العهد الفاطميّ.
اللّوحة الأولى، كُتِب عليها: «هذا قبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه»، وعلى اللّوحة الثّانية: ﴿فرحين بما أتاهم من فضله ويستبشرون..﴾ آل عمران:170، وعلى اللّوحة الثالثة: ﴿ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران:169.
ومن المؤرّخين من يقول إنّ تاريخ بناء المقام يعود إلى عصر المماليك الذين قاموا ببناء الضّريح والقبّة، وأقدم اللّوحات الأثريّة التي تشير إلى هذا الإعمار هي لوحة رخاميّة عليها كتابات بالخطّ الكوفّي مُثبّتة فوق بوابّة متحف المزار، وكُتِب عليها:
«بسم الله الرحمن الرحيم أَنشأَ هذه التُّربة المباركة العبد الفقير إلى رحمة القدير رجاءً لرحمة الله ورضوانه، مستشفعا ًعنده بجيرانه بهادر البدريّ ".." وكان الفراغ منه الثّاني من ذي الحجّة عام سبع وعشرين وسبعمائة».
ويوجد نَقْش آخر في المتحف كُتِب عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما جُدِّد في أيّام مولانا السّلطان الملك الصالح ".." سنة 752 للهجرة».
وفي سنة 1331 للهجرة/1913م عُثِرَ على نقش في المشهد يدلُّ على أنَّه خضع للصيانة والتّرميم، وتجديد بناء الأضرحة وتغطيتها بالرّخام، طوال العهد العثماني، كما أنّه تعرّض للهدم مرّةً عند احتلال الصّليبيّين لمدينة الكرك، ومرّة أخرى بفعل الزّلازل.

وفي العصر الحديث أُقيمت حفريّات أثريّة أسفرت عن اكتشافات مهمّة منها: العثور على بوابّة تؤدِّي إلى ممرٍّ مُبلّط يصل إلى ساحة المسجد في منتصف الواجهة الشّماليّة، وكذلك العثور على قبّة تعلو أقواساً أربعة، أحدها ظاهر والثّلاثة الباقية مُنهدِمة، وأرضيّتها مبلّطة بالرّخام، كما عُثِر على محراب المسجد الذي يبلغ ارتفاعه مترين تقريباً، وعلى عدد من قطع العمْلة، والأسْرِجة الفخّاريّة، والنّقوش الأثريّة.

ــــــــــــــــــ
محلة شعائر، العـدد السابع عشر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة