مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

الإصلاح الدیني بین الارتهان السیاسي واعتبارات القداسة (2)


إيمان شمس الدين ..

وهذا لا يعني خلو ساحة المشاريع الإصلاحية وأصحابها من ثغرات، وممارسات خاطئة بل وفهم خاطئ أحيانًا للإصلاح الديني بل للفكر الديني بذاته، لكننا نكتفي بتقسيمات هذه المشاريع وأصحابها التي أوردناها في بداية الورقة.

عائق اعتبارات القداسة كان ولا يزال له انعكاساته السلبية والإيجابية على الحركات الإصلاحية أهمها :
1. كان للتيار الأصولي التقليدي دور فاعل في ترشيد كثير من الحركات الإصلاحية، لا بشكل مباشر مقصود، بل بشكل غير مباشر وغير مقصود، كون ردود الأفعال الصادرة عنه كشفت منهجيته في المواجهة، وكشفت ضعفًا في بعضهم يكمن في ميله الإخباري التوقيفي على النص، وهو ما مكن بعض دعاة الإصلاح والنهضة من كشف ضعفهم بمنطق الحجة والبرهان، وإعادة نظر هذا الفريق من المصلحين في آلياتهم ومنهجهم وبعض رؤاهم.
2. كرس سلطة العوام لاعتماده على تحشيده العددي لمواجهة وإسقاط المشروع الإصلاحي وأشخاصه، وكرس الموروثات غير المبرهنة في المجال العقدي والممارسات الطقوسية، بل كرس الطقوسية الدينية على حساب العقلانية المرشدة.
3. ظهر كقوة ردع في وجه الانحرافات المطروحة باسم الإصلاح وقوضها وإن مارس ذلك باستخدام وسائل كالإرهاب الفكري والإسقاط الاجتماعي.
4. المواجهات الرافضة لأي طرح إصلاحي مخالف للمشهور والإجماع والموروثات العلمية لعلماء بشر سابقين غير معصومين، كرست العمل الفردي على حساب العمل الجماعي، فبات كثير من الشخصيات الدينية ومنها الداعية للنهضة والإصلاح، بات كثير منهم له مشاريعه الفردية الخاصة، إما بسبب خوف البعض على مشروعه بالتالي لا يريد أن يتأثر بأي حملات مضادة لمشاريع أخرى متشاركة معه ومتقاطعة، أو بسبب فقدان الثقة بالساحة الدينية وشخوصها خصوصًا بعد فتاوى التكفير والتضليل وممارسة الاجتزاءات لكلام كثير من دعاة الإصلاح ومحاولة محاورتهم بطريقة تستنطق ما يريده المحاور من الشخص الداعي للإصلاح ومن ثم تحور أو تجتزئ كلامه لتسقط وتقوض دعوته، وهو ما جعل مساحات الظن السيء تفوق مساحات حسن الظن في الوسط الديني. وكانت النتيجة كالتالي :
* في مواجهة دعاة الإصلاح ومشاريعهم رجحت أصالة المجتمع على أصالة الفرد لتقويض المشروع وإسقاط صاحبه.
* هذه المواجهة كانت نتيجتها الدفع لتكريس أصالة الفرد على أصالة المجتمع، من خلال الدفع بالمصلحين للعمل الفردي، وفقدان الثقة بين العلماء من دعاة الإصلاح أو غيرهم، مما هز كيان العمل الجماعي لحساب العمل الفردي وأضعف الطاقة الإنتاجية المعرفية وأخر كثيرُا الإبداع الخلاق الجماعي.  
هذه من وجهة نظري أهم العوائق الداخل الدينية وانعكاساتها على مشاريع الإصلاح الداخل دينية.
وهناك عائق خارج ديني يواجه أيضًا المشاريع الإصلاحية، كون ساحة عمل هذه المشاريع هي وعي الجمهور والمجتمعات، وهو ما قد يتطلب حضورًا سياسيًّا أو تحالفات سياسية لتمكن أصحاب هذه المشاريع من النفوذ والسريان، خاصة في ظل وجود أنظمة حاكمة تقنن قوانين لحمايتها لا لحماية الجمهور والمجتمعات المحكومة لها.


الإصلاح الديني والارتهان السياسي:
تلعب السياسة دورًا بالغ الأهمية سواء في تمكين مشاريع الإصلاح أو إعاقتها، وأحيانًا قتلها في مهدها.
فالإنسان بطبيعته يلجأ تلقائيًّا إلى جهة قادرة متعالية يستمد منها قدرة وجودية، وهذه بذاتها فكرة دينية بغض النظر عن طبيعة هذا الدين، سواء بشري أو إلهي، وكون البشر عبر التاريخ يميلون لعبادة هذه الجهة المتعالية، وتستهويهم الطقوسيات بشكل عام، وهو ما أدركه الإنسان منذ وجوده وأحاط بأسراره وسخر هذا الميول وهذه الطبيعة القهرية في الإنسان عبر التاريخ لتحقيق الهيمنة والنفوذ والسيطرة، وعلى كافة المستويات، وأجلى صورة للسيطرة والنفوذ هي السياسة بما تعنيه من سياسة أمور الناس والتي تمثلت اليوم كمصاديق في الدول القطرية وأنظمة الحكم فيها.
فالحاكم كصفة وظيفية عبر التاريخ وظف الدين وتحالف معه من خلال كهنته وممثليه، في سبيل شرعنة وجوده والهيمنة على عقول الناس وبالتالي الهيمنة على وجودهم وتسخيره لصالح وجوده الخاص ونفوذه وهيمنته على المقدرات والثروات.
فكانت القدرة النافذة والسلطة المهيمنة هي القادرة على فرض الدين وأفكاره على الناس، من خلال تحالفها مع ممثلي هذا الدين فيستفيد كهنته من السلطة في سبيل تسييل أفكارهم وفرضها وتستفيد السلطة منهم في إحكام هيمنتها وبسط نفوذها وشرعنته.

وتتجلى هنا مسارات إصلاحية كان فشلها بسبب الارتهان السياسي، فكانت تنبثق مع تقادم الظلم وإحكام انغلاق العقل، حركات إصلاحية تحاول الثورة لأجل التغيير والنهضة، ولعل كثيرًا من الأنبياء والرسل يمثلون مصداقًا لهذه الثورات النهضوية التي تأتي لتحرير الإنسان من أغلال الحاكم السياسي والحاكم الديني، ووصلها بحاكمية الله عبر منهج يعتبر العدالة حجر الزاوية في الدعوة إلى الله، وعبر التاريخ كانت هناك أيضًا حركات إصلاحية ومصلحين ثاروا لأجل الإصلاح والنهضة، إلا أن أغلبهم كان الفشل هو النتيجة الأخيرة لمشاريعهم لأسباب عدة أهمها:
1. ارتهان بعض هؤلاء المصلحين للساسة والسياسة، باعتبار أنهم قد يسخرون هذا الارتهان في سبيل تمكين مشاريعهم.
2. دخول بعض المصلحين للإصلاح من بوابة السياسة والسياسيين مما يؤدي إلى تسخير بعض الساسة لهؤلاء في سبيل مشاريعهم الخاصة، وما أن يتحقق المشروع حتى يتم التخلص من المشروع الإصلاحي وصاحبه.
3.  محاربة الساسة والحكام لكل مشروع نهضوي إصلاحي ديني يمكنه أن ينهض بوعي المجتمع ويعيد صباغة وعيه وأفكاره، بما يقوض هيمنة الحاكم على عقولهم ويهدد وجوده ونفوذه. هذه المحاربة كانت تارة عن طريق ملاحقة أصحاب المشاريع وسجنهم أو قتلهم أو تشويه سمعتهم لإسقاطها اجتماعيًّا، أو إشغالهم بقضايا فرعية وجدالات عقيمة تبعدهم عن غايتهم في الإصلاح، فيموت المشروع ويقضي صاحبه عمره في الرد على هذا ومناقشة ذاك.
4. الصراعات الوجودية السياسية بين الحكام المختلفين في المنهج والساعين للعب دور إقليمي، هذه الصراعات تدفع نظامًا سياسيًّا لاستغلال معارضي النظام الخصم خاصة إذا كانوا أصحاب مشاريع نهضوية إصلاحية، تدفعه لاستغلال هؤلاء وتمكينهم لا بسبب الاقتناع بمشروعهم النهضوي، وإنما لإضعاف النظام الخصم واختراق منظومة الدولة من خلال أتباعها، وهؤلاء الذين يتم استغلالهم، قد يجدون ذلك فرصة لاستغلال مزدوج طرفاني، حيث يستغلون استغلال الحاكم لهم، باستغلالهم لذات الحاكم للترويج لمشروعها النهضوي وإثبات نجاعته وجدوائيته في مجتمع هجين عن مجتمعهم، لكنه يمتلك مقومات النهضة، وما إن ينتشرون اجتماعيًّا ويثبتون وجودهم وحضورهم حتى يتحولوا إلى جماعة أو حزب يهدد انتشارهم الحاكم الذي قام باستغلالها، فيعمد الحاكم لتقويض مشروعهم والتخلص منهم بشتى السبل، فلا يمكن لأي أهداف نهضوية ومشروع إصلاحي صالح، أن يحقق أهدافه الصالحة بوسائل غير صالحة، لذلك تفشل كثير من المشاريع الإصلاحية النهضوية لعدم صلاح أدواتها ووسائلها.

إن تداخل السياسي مع الديني تداخلًا لا مبدئيًّا، بل تداخلًا تحركه المصالح ودوافع الهيمنة، قوض كثير من المشاريع الإصلاحية، وأسقط كثيرًا من شخصياتها، فسقطت أفكار الإصلاح مما عمق التخلف والرجعية وبسط نفوذ الحكام بشكل أكبر على عقول الناس.
فإحداث تغيير داخل ديني لا يعني بالضرورة نجاح المشروع وتمكنه، بل لا بد أيضًا في موازاة ذلك إحداث تغيير خارج ديني، فالأول يعيد بناء وعي الذات وينهض بها من ركام أي تخلف أو انغلاق زمني، فتصبح أصيلة بلغة العصر وقادرة على محاكاة الواقع وإشكالياته، والثاني يعيد توجيه وعي الناس وصياغته وفق مقومات النهضة، ويهيئ قابليته للسير قدمًا في نهضة شاملة غايتها العدالة.
 السياسة  تلعب دورًا كبيرًا في هيمنة الحضارات وتمكينها ومواجهة مشاريع النهوض والوعي، ومن يملك مالًا أكثر سيملك نفوذًا أكبر وبالتالي يكون الأقدر على تحريك أحجار الشطرنج.
وتحالف قوة ونفوذ الحاكم مع القداسات واعتباراتها يشكل سدًّا منيعًا في بعده السلبي في وجه أي نهضة أو تغيير، في اجتماع السلطة والمال وسلاح الفتوى يمثل ثلاثية محكمة في وجه المصلحين من جهة، وسيفًا مسلطًا على رقاب الناس وعقولهم.


رؤىة ومقترح:
- المنهجة البرهانية لأي مشروع إصلاحي داخل ديني، واعتماد التتبع الدقيق للآراء، ومن ثم طرح مشروع إصلاحي محكم ومدروس على ضوء تجارب السابقين ودراسة أهم نقاط الضعف والقوة وأسباب الفشل والنجاح.
- طرح المشروع من قبل مجموعة تؤمن بضرورة التغيير، وليس من قبل فرد بذاته.
- دراسة قابلية المجتمع ووعيه، والعمل على النهوض بالقابليات إلى مستوى يمكن بعدها طرح المشروع الإصلاحي.
- التدرج في الإصلاح، وعدم ممارسة الصدمة، لأنها ستكلف المشروع وجوده.
- المباشرة الجماعية لطرح رؤى إصلاحية بطريقة علمية، والعمل على انتشارها إعلاميًّا، سيراكم زمنيًّا حركة وعي اجتماعي تدفع باتجاه تسريع عملية  التغيير الداخل ديني وعمل إصلاحات حقيقية.
- الابتعاد عن أي رهانات وارتهانات للسياسيين والسلطات، والانطلاق من الجمهور والعمل بين الجمهور ومعه، وعدم الاصطدام بالسلطة خاصة في المراحل الأولى للمشروع.
- الاستقلال المادي والمعنوي والاكتفاء الذاتي من مقومات نجاح العمل الإصلاحي.
- المكنة الإعلامية والقدرة على الانتشار بكافة الوسائل المتاحة.
- عمل مناظرات تلفزيونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لطرح الرأي والرأي الآخر أمام عامة الناس، ومناقشة الآراء وتفنيدها وجهًا إلى وجه.
- عدم الانشغال والانجرار إلى معارك جانبية، في الرد على الردود الغير علمية، أو مواجهة سيل التهم ومحاولات التضييق، والفتاوى، بل الاستمرار في الانشغال في المشروع الإصلاحي والانتشار الإعلامي والاجتماعي وإحراز مزيد من المكنة العلمية.
- عدم الاكتفاء بالعمل الفردي، ومحاولة تشكيل كيان جماعي متفق على كليات المشروع الإصلاحي وأهميته وآلياته التطبيقية، والعمل على الدفع به في وعي الجمهور، وعمل فرق عمل داخل المؤسسات الدينية للمباحثة والمناظرة والسير قدمًا بمنهج قل هاتوا برهانكم.
- النقد العلمي العلني للآراء، وطرح البدائل الصالحة للنهوض والإصلاح، وعدم تقويض الموجود دون دليل ودون بديل صالح مبرهن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة