قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

الاستدلال في القرآن الكريم (2)


الشيخ محمد هادي معرفة ..

وكلمة (المثل) هذه، تكون إشارة إلى ما حواه المثيل من صفات وسمّات خاصّة تجعله أهلاً لهذا النعت (إيجاباً أو سلباً) في القضية المحكوم بها .
مثلاً لو قيل ـ خطاباً لشخصية بارزة ـ: (أنت لا تبخل) كان ذلك دعوى بلا برهان.أما لو قيل له: (مثلك لا يبخل) فقد قرنت الدعوى بحجتها.. إذ تلك خصائصه ومميّزاته هي التي لا تدعه أن يبخل، فكأنك قلت: (إنك لا تبخل، لأنّك حامل في طيّك صفات ونعوتاً تمنعك من البُخل).


وهكذا جاءت الآية الكريمة:

إن من كان على أوصاف الألوهية الكاملة، فإن هذا الكمال والاستجماع لصفات الكمال، هو الذي يجعل وجود المثيل له ممتنعاً.. (بالبيان المتقدّم).
وعليه، فليست الكاف زائدة، كما زعم البعض. لأن المثل ـ على مفروض البيان ـ إشارة إلى تلك الصفات والسمات التي تحملها الذات المقدسة.. ولم يكن المراد من المثل التشبيه، فهو بمنزلة (هو) محضاً.
فكان المعنى: ليس يُشبه مثله تعالى شيء، أي ليس يشبهه في كمال أوصافه ونعوته شيء.
قال الأستاذ درّاز: الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلك أن يقول: (ليس كالله شيء) أو(ليس مثله شيء). بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلاً على الدّعوى والإنعات إلى وجه حجّة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي. ألا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلت: (فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها. أما إذا زدت كلمة المثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنك دعمت كلامك بحجة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك. لأن وجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع الاستفسال إلى رذائل الأخلاق. وهذا منهج حكيم وضع عليه أسلوب كلامه تعالى. وأن مثله تعالى ذا الكبرياء والعظمة لا يمكن أن يكون له شبيه أو أن الوجود لا يتسع لاثنين من جنسه..(1).
فقد جيء بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدّعوى، وبالآخر دعامة لها وبرهاناً عليها. وهذا من جميل الكلام وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.
وقال تعالى ـ بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزّت آلاؤه ـ: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) لقمان: 27.
هذه مقارنة بين المحدود واللاّمحدود، وأن المحدود مهما بلغ عدده وتضخم حجمه، فإنه لا يُقاس بغير المحدود .. إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي، ولا مناسبةبين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر، وما يمتدّ إلى ما لا نهاية أبداً..
والكلمة ـ في هذه الآية ـ يُراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى، المتحقق بقوله: (كن).
قال تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس: 82).
وكلّ موجود ـ في عالم الخلق، وهو ما سوى الله ـ فهو كلمته تعالى. كما أطلق على المسيح ـ عليه السلام ـ كلمة الله. (وكلمته ألقاها إلى مريم) (النساء:171) (2).
والمعنى:أنه لو جعلت الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً، ليكتب بها كلمات الله، لنفدت الأقلام والمداد، قبل أن تنفد كلمات الله، لأنها غير متناهية.. وذلك لأن كلماته تعالى إفاضات، ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً..
وقال تعالى ـ ردّا على احتجاج اليهود ـ: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم)(البقرة: 91).
امتنعت اليهود من اعتناق الإسلام، بحجة أنهم على طريقة نبيهم موسى عليه السلام وعلى شريعته. ولذلك لا يمكنهم اتخاذ سيرة أخرى والإيمان بشريعة سواها.
هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام.. وقد فنّد القرآن هذا التذرّع الكاسد والاحتجاج الفاسد.
إذ لا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين، والكلّ يهدف مرمى واحداً، ويرمي هدفاً واحداً.. وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدّرب إلى صراط الله المستقيم، صراطاً واحداً وهدفاً واحداً، لا تنافر ولا تنافي ولا تعدّد ولا اختلاف.
والدليل على ذلك أن هذا القرآن يصدّق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوا من رسالات الله. ولو كان هناك تناف وتنافر لما صحّ هذا التصديق.
وقد جاء هذا التصديق بلفظة (مصدّقاً لما بين يديه) في ثمانية مواضع من القرآن(البقرة: 97. وآل عمران: 3. والمائدة: 47 و48، والأنعام: 92، وفاطر: 31.والأحقاف: 30).
وبلفظة (مصدّقاً لما معهم) في موضعين (البقرة: 89 و101).
وبلفظة (مصدّقاً لما معكم) في أربعة مواضع (البقرة: 41 و91. وآل عمران: 11. والنساء: 47).
ومن ثمّ قال: (إنّ الدّين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم...)
(فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني...)
(وقل للّذين أوتوا الكتاب والأمّيين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا. وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ. والله بصير بالعباد) (آل عمران: 20).
وفي الآية وما يتعقبها نكات وظرف دقيقة:

منها: قوله: (مصدّقاً لما معهم) أو (مصدّقاً لما معكم) ـ في آية أخرى ـ وهذا تنويه بأن المتبقى من التوراة ليس كلها وإنّما هو بعضها.. لكنه لم يقل: (لما بقي من التوراة عندكم) وعبّر بما معكم.. لئلا يتنبّه اليهود إلى ذريعة أخرى لعلّهم يتذرّعون بها.. هو أنّ المنافرة إنما كانت بين القرآن وما ذهب من التّوراة.. فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة.. وهي طريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه..
ولم يقل: (مصدقاً بالتوراة عندكم).. لأنه حينذاك كان اعترافاً بأن الموجود هو تمامها لا بعضها..
فأتى بما لا يمكنهم المخاصمة جدلاً، ولا كان اعترافاً بصدق ما عندهم انه توراةكلّه.. وهذا من دقيق التعبير الذي خصّ به القرآن الكريم..
وأيضاً في التعقيب بقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله ـ 91) نسبة القتل إليهم بالذّات، لأنهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم ولو قال: فلم قتل آباؤكم.. لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار.. وكان أشبه بمحاجة الذئب، عدا على جمل صغير، بحجة أنّ أباه قد عكّر الماء عليه في قناة كان يشرب منها.. (3).


إقناع العقل وإمتاع النفس:

ميزة أخرى في احتجاجات القرآن، هو حينما يحاول إخضاع العقل، ببراهينه المتينة، تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة، ورقائق بيانه العذبة السائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى، سهلاً سلساً يستلذه الذّوق ويستطيبه الطبع، عذباً فراتاً لذّةً للشاربين.
إنّ للنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل، وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير، وحاجة كلّ واحدة منهما غير حاجة أختها، فأمّا إحداهما فإنها تنقّب عن الحقّ لمعرفته أوّلاً، وللعمل به ثانياً.
وأمّا الأخرى فإنها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء من لذّة وألم، ومتعة وغذاء للنفس.
والبيان التّام هو الذي يوفّي لك للحاجتين جميعاً، ويطير بنفسك بكلا الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقليّة، إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس.
أمّا الحكماء فإنما يؤدّون إليك ثمار عقولهم غذاًء لعقلك، ولا يهمهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك، يقدّمون حقائق المعارف والعلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.
وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاع سمعك وضميرك، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّاً أو رشداً، وأن يكون حقيقةً أو تخيلاً، فتراهم جادّين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطربون وإن كانوا لا يطربون (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم فيكلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) (4).
وكل ّإنسان حينما يفكرّ فإنما هو فيلسوف، وكل إنسان حينما يحسّ فإنما هو شاعر..
ولا تتكافأ القوتان: قوّة التفكير وقوّة الوجدان.. وكذا سائر القوى النفسية على سواء .. ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التّعادل عند قليل من الناس، فإنها لا تعمل في النفس دفعةً وبنسبة واحدة.. بل متناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت قوّة اضمحلّت أخرى وكاد ينمحي أثرها.. فالذي ينهمكُ في التفكير تتناقص قوّة وجدانه، والذي يسعى وراء لذائذه، عند ذاك تضعف قوّة تفكيره.. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(5).
وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك، هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما فينفسه على سواء، وما كلام المتكلّم إلا انعكاس الحالة الغالبة عليه، (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح). (قل كلّ يعمل على شاكلته)(6) وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به.
هذا مقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكلّ لسان وما لكلّ قلم من قوّة غالبة عليه، حينما ينطق وحينما يكتب. فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطره ممّا مضى .. عرفت بذلك أنه يضرب بوترين، ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.
وأما أن أسلوباً واحداً يتجه اتجاهاً واحداً، ويستهدف هدفاً واحداً، ويرمي إلى غرض واحد، ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين: إقناع عقلك وإمناع نفسك معاً، وفي آن واحد وفي كلام واحد.. كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة، أوراقاً وأثماراً، أنواراً وأزهاراً، معاً، أو كما يجري الرّوح في الجسد والماء في العود الأخضر.. فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.. (ما جعل الله لرجل منقلبين في جوفه) (7).
فمن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأسلوب واحد، يفيض عليك من الحقيقة البرهانيّة والدّلائل العقلانية، بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء، والمتعمقين النبلاء، ويرضخ بعقولهم الجبارة..
وإلى جانب ذلك ـ وفي نفس الوقت ـ يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة والطلاوة، ما يسدّنهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين..

ذلك هو الله ربّ العالمين، الذي لا يشغله شأن عن شأن، القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد، وأن يمزج الحقّ والجمال جميعاً، يلتقيان ولا يبغيان.. فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً، عذباً فراتاً، سائغاً لذّةً للشاربين.
هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم، حيثما توجّهت وأينما تولّيت بوجهك.. إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر.. وأنه في مزدحم براهينه ودلائله، لا يغفل حظّ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء..يبث ذلك بوفرة شاملة، في جميع آياته وبيناته، في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها، الأمر الذي (تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)(8).
(إنّه لقولُ فصل وما هو بالهزل)(9).


الهوامش:

 (1) راجع: النبأ العظيم: ص128.
(2) راجع: الميزان: ج16، ص245.
(3) راجع: النبأ العظيم: ص117.
(4) الشعراء: 224 ـ 226.
(5) الأحزاب: 4 .
(6) الإسراء: 84 .
(7) الأحزاب: 4.
(8) الزّمر: 23.
(9) الطارق: 14 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة