قراءة في كتاب

الحكمة المتعالية الضّائعة في "عالم صوفي"


ربى حسين ..

رواية "البعد الضائع في عالم صوفي" كتبها محمد رضا اللواتي لسد الفراغ الذي خلفته رواية "عالم صوفي" للكاتب جوستين غاردر والتي كتب فيها تاريخ الفلسفة العالمية، ولم يخصص فيها للفلسفة الإسلامية من روايته إلا نصف صفحة.
استهل الكاتب الرّواية ببعض التّساؤلات عن العالم والحياة والآخرة: من أين جاء العالم؟ هل أن لكل شيء بداية؟ لماذا يحتاج إلى الكائنات ؟ هل الوجود محصور في هذا العالم؟ وهل بلوغ القرب الإلهي متاح؟ ما القضاء؟ وما القدر؟ وهل للإنسان الكامل وجود؟
ظلت هذه الأسئلة تجتاح ذهن إيمان ردحاً من الزمن، إلى أن وقع بصرها على عالم صوفي، فاقتنته، علّها تروي غليلها بالسفر فيه، والتزود منه. وكم أسعدها السفر في ذلك العالم البديع، ولكنها، حين العود، لم تجد ما تتشبث به، لتردع عن تفكيرها هجوم تلك الأسئلة الغامضة مجدداً، إلا أن تقول "إن الفيلسوف الحقيقي لا يعترف بالفشل أبداً".
وشاء لها القدر أن تكتشف البعد المفقود في عالم صوفي، ذلك البعد الذي تكمن فيه الأجوبة لكافة أسئلتها الصعبة. فلقد دلها رجل ذات يوم، في معرض مسقط الدولي الحادي عشر للكتاب، إلى الفلسفة الإسلامية، باعتبارها تحوي ما تبحث عنه، وبالتحديد: الحكمة المتعالية منها. تلك الحكمة العظيمة التي، لسبب ما، خلا منها عالم صوفي.


فلاسفة الإسلام
ماهر الموكل إليه شرح البعد الضّائع لإيمان، استهلّ حواره معها في القسم الأوّل من الكتاب بالحديث عن بداية الفلسسفة الإسلاميّة الّتي أبصرت النّور مع الكندي الّذي ألف كتاب الكافي بناءًا على أجوبة أخذها من الإمام الحسن العسكري، ومن ثمّ الفارابي الّذي وعلى الرّغم من انخراطه التّام في ترجمة وتنقيح فلسفة أرسطو، إلّا أنه بقي على التزامه الدّيني بتعاليم القرآن الكريم والهدي النبوي الشّريف، وابن سينا ذلك الطّبيب الّذي له 180 الف مؤلّف، والّذي أطلق عليه لقب الرّئيس لريادته في بعض نواحي الفلسفة الإسلاميّة. كما يعتبر نصير الدّين الطوسي من روّاد الفلسفة الإسلاميّة حيث عمل على إعادة النّهضة العلميّة والفلسفيّة، كما سّخر هذه الفلسفة لتقوية عمود الفكر الكلامي أو لنقل ألبس علم الفلسفة ثوب علم الكلام. وأخيرًا وصل ماهر في الحديث إلى آخر روّاد الفكر الفلسفي في الإسلام "صدر الدّين الشّيرازي" الّذي أسّس الحكمة المتعالية "أصالة الوجود" القائمة بذاتها، أي أن الوجود حقيقة واقعيّة قائمة بذاتها، تتمتّع بالغنى المطلق والاستقلال التّام، وقد ساعدت هذه الحكمة في إيجاد حلول جوهريّة لعدّة من المشاكل العقليّة الكبرى.


الكيان البشري
ومن ثّم تطرّق الكاتب وعلى لسان ماهر إلى تفصيل مهم مرتبط بالكيان البشري. فقد قدّم الفلاسفة تصوّرهم عن علاقة المعرفة بالنّفس كعلاقة النقوش بالورقة البيضاء، وإنّ سائر النّفوس في جوهرها واحدة، وعلومها ليست إلّا أعراضًا طارئة عليها، إلّا أنّ صدر الدّين لم يقبل بهذا، فنفس النّبي ليست كنفس الطّفل، وعبّر عن ذلك الاعتراض في حكمته المتعالية، مؤكّدًا أنّ النّفس هي وجود واع وعلمي بحت. فالعلم غذاء النّفس يمدّها وجودًا ويوسعها حقيقة، والنّفس تتخذ شكلها النهائي حسب العلوم الّتي اعتقدتها وأحبّتها وعملت وفقها.


العليّة
أمّا قانون العلّية فقد خصّص له فصلًا كاملًا مؤكّدًا أنّه إذا وجدت العلّة فوجود معلولها حتميّ في تناسب وسنخيّة، والعلة هي ذلك الموجود الّذي تقتضي ذاته وجود معلوله. كما أضاف أنّ  ملاك الغنى في العلّة هو الإطلاق الوجودي، بينما منشأ الحاجة في المعلول هو الفقر الوجودي، وفعل العلّة الأولى مصاحب للرضا والحب ولا صلة له بالجبر.


الوجود
واصل الكاتب حديثه عن ثغرات عالم صوفي إلى أن وصل لموضوع الوجود الّذي يمتاز بأهميّة عظمى في الحكمة المتعالية، معتبرًا أنّ الحكمة المتعالية تخصصت بالوجود، فالأشياء عندما لبست ثوب الوجود عرفناها. وتحت هذا العنوان تحدّث عن مفهوم الوجود كمفهوم مشترك ومعنوي، كما فصل مفهومه عن مفهوم الماهيّة. وشرح كيف أنّ الوجود هذا "الحقيقة الأصيلة" واحدة ذات مراتب لا تتعارض مع نظريّة وحدة الوجود، وفقًا لقاعدة الفقر الوجودي، وأنّ المعلول ظهور وتجلٍّ للعلّة.


إثبات وجود الله وتوحيده
هنا وصل الكاتب إلى الحديث عن مسألة دقيقة تتمحور حولها الفلسفة الإسلاميّة، وهي إثبات وجود الله تعالى، فاستهل حديثه بالإشارة إلى البراهين على وجوده تعالى وأبرزها الفطرة، وبرهان واجب الوجود، وبرهان الصّديقين. ومن ثمّ كان له وقفة مع مراتب التوحيد، كمرتبة التوحيد في الذّات، والتوحيد في الصّفات، الأفعال، والعبادة. فدليل التّوحيد هو الإطلاق الوجودي، وهو يستقيم على قاعدة أصالة الوجود. فاللّه تعالى له علم بذاته، المساوي لعلمه بكائناته قبل الإيجاد، وهو علم فعلي ليس بانفعالي.


النّظام الأحسن
خصّص هذا الفصل للحديث عن النّظام الأحسن الذي يوجده الابتهاج الذّاتي، هذا النّظام المعين للعالم ليصل إلى غرض وجوده. كما وأكّد أنّ الحكمة الإلهيّة تضمن النّظام الأحسن، في حين أنّ عدالته تضمن بلوغ كل واحد من الكائنات مداه الأقصى. كما اعتبر الكاتب أنّه وحسب المنظومة الإسلاميّة فإنّ فعله تعالى يتعلّق بفعل الإنسان عبر النّظام الطّولي الّذي يحفظ لكل فاعل فعله في الوجود، ويكشف عن كيفيّة تعلق الفعل الإلهي بفعل الإنسان.
أمّا عن القضاء والقدر فأكّد أن هذا النّظام يكشف عن صلة الكون بالفعل الإلهي، ولا علاقة له بجعل الفعل البشري اضطّراريًّا، والاتّصال بمنبع الوجود عبر الذّكر والدّعاء يؤثّر في القضاء.
وكل ما سلف من الحكمة المتعالية وغيرها من الأسس الّتي بنيت عليه الفلسفة الإسلاميّة إنّما هو للوصول إلى الإنسان الكامل الّذي يحقق غرض الوجود والغاية من الخلق وهو معرفة الله تعالى. ليبقى يمثّل الإسم الأعظم عمليًّا، على أساس أنّ الكون محض فقر ومظهر للوجود المتعالي، متّبعًا هذا السّير التّصاعدي في درجات الوجود للوصول في النّهاية إلى أعلى درجات القرب الإلهي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة