علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

هل النفس مجردة أم لا؟ (1)


السيد محمد حسين الطباطبائي ..
هل النفس مجردة عن المادة؟
(ونعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا؛ وبتجردها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان).
إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإنا ربما غفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، ولا غفل قط عن المشهود الذي نعبّر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.
وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاً للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر مادي كذلك ـ فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعاً مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.
وأيضاً هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب.
وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع من الإلهيين من المتكلمين، والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو من تكلف من غير طائل.
قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، ولم تجد أثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.
قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملو دائماً، فما فيه من الماء يجده الحس واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاً بل هو كثير متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة. والذي جرّأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة