لقاءات

مريم بوخمسين: الفن يقرب حواسنا من إدراك ما لا تدركه نفوسنا في الحياة الواقعية


نسرين نجم ..
فراشة تتنقل من لوحة إلى لوحة تاركة أريج بصماتها المتميزة عليها، ترى في لوحاتها التمرد الثورة، الحب، والإنسان،   لا تهوى العبث والفوضى، لكنها مشاغبة في بعض الأحيان، ألوانها مدروسة، تحمل في طياتها الكثير من الدلالات والمعاني، تقرأ فيها ثقافة عالية وراقية،  تلك هي الفنانة التشكيلية مريم بوخمسين.


الانطلاقة الأولى:
في رحلة التعرف إلى انطلاقتها الأولى في رحاب الفن التشكيلي قالت: "مارست الفن منذ طفولتي المبكرة، ولا أتذكر إلا حديث أمي عن خربشاتي على المساحات البيضاء وشغفي بالأقلام الملونة، كان الفن دائمًا وسيلتي لفهم الحياة والتعبير عن الذات، ومن حسن حظي أني نشأت في عائلة تدعم استقلاليتي وتقدّر الإبداع بكل أشكاله، لذا توجهت لدراسة الفنون في المرحلة الجامعية (2009)، وعملت كمدرسة للتربية الفنية بعد التخرج (منذ 2011)، وكانت بداية انطلاقتي نحو الانخراط في الأعمال التكنوقراطية، وبداية تحدد معالم هويتي الفنية. لا أعرف هل أنا اخترتُ الفن أو هو من اختارني؟!  فأنا لم اجتهد في البحث عن طريق أجد فيه نفسي، إنني اتجه تلقائيًّا نحوه، إنني لا أرى طريقًا آخر أصلًا".
اختيار مدرسة معينة في الفن التشكيلي يساعد المتمرّس فيه على سبر أغوار الذات واكتشاف أسرار الفن بطريقة أو بأخرى، لذا كان السؤال حول مميزات المدرسة التي تعتمدتها، فأجابت: "الفن المعاصر تجاوز مفهوم الأساليب الفنية، وأصبح لكل فنان أسلوبه الفريد الذي لا يشبهه فيه أحد، إن أكثر ما أخشاه أن أقع في دائرة التصنيف، لكن أعمالي يغلب عليها الطابع التعبيري، وهو مذهب فني يعتمد على النظرة الذاتية للأشكال، ويرفض المحاكاة الواقعية، ويعتمد على الأحاسيس والانفعالات في التعبير الفني ، في هذه المدرسة قد يبالغ الفنان، قد يحذف أو يضيف كي يعبر عن رؤيته الشخصية للحياة ، يضع جزءًا من روحه دون موضوعية أو حياد. يعتمد عملي على بناء الطبقات، فعادة أبدأ بصنع ملامس على قماش الكانفس باستخدام السكين مع  الجسو أو اللون أو بإضافة خامات أخرى، ثم أضيف طبقات من ألوان الأكريلك واحدة  تلو الأخرى، في شفافيات أتعمدها كي تظهر امتزاجات الألوان وتأثيراتها المختلفة، أستخدم أيضًا بعض تقنيات الطباعة من اللاينو أو الاستنسل أو الطباعة الرقمية؛ إن أردت تكرار عنصر معين. لا أحب المبالغة في جعل الأشكال مثالية، وتعجبني التأثيرات غير المقصودة، فأجمل ما في الفن وأصدقه ما كان وليد اللحظة، الناتج عن صدفة التجريب، أحب العبث بالخطوط فهي تساعدني على الاكتشاف والتعرف أكثر إلى إمكانيات الخط واللون وعلاقته بالشكل، أسعى لجعل أعمالي سهلة وعميقة في آن معًا، حتى يصل مضمونها إلى الفرد البسيط وترضي كذلك ذائقة النخبة".


المرأة في لوحاتها:
المرأة هي الشريك الأساس للرجل في بناء المجتمع، وفي دورة الحياة، وكل الشرائع والأديان أعطت للمرأة حقوقًا تحفظ إنسانيتها، وتحافظ على مكانتها، ورغم كل هذا، لا تزال المرأة مغيبة في العديد من الميادين، ولا يزال حقها منتقصًا، وبما أنها لوحاتها تعبر دائمًا عن رسالة ما، كان لا بدّ من سؤالنا إياها حول مدى تعبير رسوماتها عن المرأة، فأجابت: "تقوم الحياة على التكامل الكامن في التوافق والتضاد بين الأشياء، والمرأة جزء من النسيج الكوني الذي تتحد فيه العناصر والاجزاء، بحيث لو فقد أحدها اختل التوازن، إن أكثر ما يغريني في رسم المرأة أنها أجمل ما صنعت الطبيعة، من حسنها يشع جمال النور الإلهي، وهنا لا اعني فقط جمال قوامها ومظهرها فقط، بل ما تحمله روحها من آثار وأسرار تعجز حتى هي عن فهمها، لكن الفن يقرب حواسنا من إدراك ما لا تدركه نفوسنا في الحياة الواقعية، أما  تمسكي بالتعبير عن الأنثى، فهو نابع من إحساسي بالمستوى الدوني الذي تشعر به في مجتمعاتنا الشرقية، أحاول تغيير الصورة النمطية عنها، وعن محدودية أدوارها في الحياة، أعبر عن جمال المرأة الداخلي قبل جمالها الخارجي، وأحاول لفت النظر إلى روحها وعقلها وعمقها الوجداني، ويؤسفني كثيرًا اعتبار المرأة كائنًا جميلًا فحسب، يختزل في جسده، وحصر نشاطها في مساحة ضيفة جدًّا".
 حديثها عن تغيير الصورة النمطية دفعنا إلى سؤالها حول خوضها في هذا المجال فقالت: "بشكل عام المرأة في المملكة تبرع في كل مجال تضع يديها فيه، وتتحدى الظروف والقيود بكل جدارة لتثبت تفوقها يومًا بعد يوم، وفي فضاء الفن التشكيلي، لمعت الكثير من الأسماء النسائية، منذ بدايات الفن في المملكة وحتى التجارب اليافعة. الفنانة في المملكة عصامية غالبًا ، فرضت نفسها على الساحة بقوة أعمالها، وتمكنها من التعبير بأسلوب فريد، وهي اليوم تحظى بمكانة عالية، وتجاربها لا تقل أهمية عن تجارب شقيقها الرجل".
من يتابع لوحات الفنانة مريم بو خمسين يلاحظ غياب تحديد ملامح وجه المرأة في لوحاتها، وحول هذا الأمر قالت: "دائمًا أبتعد عن رسم تفاصيل كاملة للوجوه وخاصة العيني،ن لأن أبرز ما يميز الإنسان هو عينيه، والوجه هو ما يمنح المرء هويته، وهو ما يجعل "فلانًا هو فلانًا"، وبالنسبة لي لا أريد في لوحاتي أن أرسم بهوية محددة بل أريد أن أعبر عن الإنسان كموضوع عام، غير مرتبط بذوات واضحة المعالم، أسعى للتعبير عن الهوية الجمعية للإنسان دون إطار يربطه بمكان أو زمان محدد".


رسالة الفن التشكيلي:
تردد دائمًا الفنانة التشكيلية مريم بو خمسين عبارتها :"نلجأ للفن لمحاولة إصلاح الواقع وشفاء ذواتنا" فهل فعلًا استطاعت ذلك، تجيب: "أنا متصالحة مع نفسي ومحيطي تمامًا، متوحدة مع الكون في عالمي الداخلي الذي أجد فيه الملاذ من تقلبات الحياة اليومية. في الحقيقة ليس الفن وحده من منحني هذا الإحساس بالاكتفاء، فأنا أنعم بجو عائلي هادئ، وكل ما يشغلنا هو كيف نتقدم في مجال الفن والعلم، أعتقد أن الطريقة الأصلح لتغير الواقع ليست في مواجهة الأفكار الشائعة فمحاربة الشيء تزيد في انتشاره، وإنما بطرح أفكار جديدة بديلة تعبر عن الواقع الجديد المأمول، هذا حقًا ما يساعدني على تجاوز الأحوال العامة حين تكون سيئة، أن أتجاوزها بالخيال، بصورة مفترضة عن عالم مثالي ومسالم ويحب فيه الجميع بعضهم".


ما يميز بو خمسين هو إطلاعها على العديد من العلوم كالفلسفة والأديان وعلم النفس، لذا قمنا بسؤالها حول مدى مساعدة هذه العلوم لها في تحديد هدفها وسالتها بشكل أوضح، فقالت: "ساهمت مكتبتي كثيرًا في تشكيل معالم هويتي الفنية، مواقف الآخرين، تجاربهم وأفكارهم التي استعرتها من رفوف الكتب اكسبتني الثقة للتخلص من القوالب الجامدة والتنور بالحرية الفكرية التي شكلت لي كياناً جديداً أكثر تفرداً واستقلالاً. وأسعى الآن للمزاوجة بين نظريات الفيزياء الكمية والروحانيات الشرقية في قالب فني جديد، كي أشبع شغفي بالفن والعلم والفلسفة معًا، أعمل على تقديم رؤية أعمق لأنفسنا واتصالنا بكل ما يحيط بنا، من خلال البحث في نشأة الكون وكيف وجد الإنسان نفسه متورطًا في الحياة مفتشًا عن غايته منها، أستيقظ كل يوم وبي دهشة ورغبة لاكتشاف المزيد عن هذا العالم، إننا نتعلم أكثر كي يزداد وعينا، لكن المعرفة وحدها لا تكفي، إننا نحتاج بأن نشعر بما تعلمناه، أعتقد أن الفن وسيلتنا لتحقيق ذلك، كاتحاد العقل والقلب معًا، فالفنان إنسان يسكنه قلق وجودي لا يطمئن إلى حين يتجلى في حالة إبداعية".
أما عمَّ تغيّر في لوحاتها منذ انطلاقتها، إلامَ تطمح فتقول: "بالنسبة لي أنا في حالة بحث مستمرة، دائمًا هناك شيء مفقود مجهول لن نجده لكننا نقترب منه، كل شيء يتحرك ينمو يتغير ومن المهم جدًا أن نواصل الاستكشاف، والفنان الحقيقي قلق حساس مسكون بالأسئلة، تدفعه الحيرة، يعمل عقله كدوامة لا يوقفها إلا هدوء القلب الذي يستشعره مع اللوحة، فالحياة دون مغامرة لا تستحق العيش، فما جدوى الوجود إن كنا لن نضيف له شيئًا؟، وكيف سنضيف إن لم نجرب ما لم يسبقنا إليه أحد؟. لا أفترض أن هناك حدودًا للطموح، لا أضع له سقفًا؛ بل أطلقه في فضاء مفتوح. ومن طبيعة الأحلام أنها غير واضحة وأحيانًا غير واقعية، لدي أحلام كثيرة ربما تكون غير معقولة، لكني أحتفظ بها لنفسي لأنها تجدد شغفي للعمل بلا انقطاع، وستظهر إلى العلن حين تتحول إلى واقع".


رسائل أخيرة:
وفيما يخص الصعوبات والعوائق التي واجهتها في عالم الفن التشكيلي، تعتبر بوخمسين أن : "أصعب ما يواجهني ومعظم الفنانين؛ هي الظروف التي يمر بها الفن في كل العالم، فالساحة الفنية المحلية والعالمية مليئة بالتناقضات والمحيرة حقًا. إن الفن التشكيلي ليس مجالًا علميًّا دقيقًا يسير وفق قواعد معينة، فلا توجد معايير حقيقية تتحكم به، هو مجال إنساني متشعب ومتنوع إلى أقصى حد، وعلى الساحة العالمية أصبحت الحدود التي تفصل بين الفن وغير الفن تفقد أهميتها، أصبح الفن المعاصر ملكًا للجميع، وفيه هذه الخاصية ميزة وعيب في الوقت ذاته، فهذا يجعل منه مناسبًا لكل الأذواق، والجميع يستطيع أن يجد ضالته بحسب طريقة بحثه، في المقابل فإن عدم الرضوخ لمعايير محددة؛ جعل من الجميع قادرين على خوض المجال سواء كانوا مؤهلين أم لا، فلم نعد نستطيع التمييز بين الفنان الحقيقي والآخر المصطنع، وأصبح كل شيء صالحًا ليكون عملًا فنيًّا! بالإضافة إلى أن الفن التشكيلي هنا فن نخبوي لا يصل لعامة الناس، مما جعل الفنان يعيش حالة من العزلة عن المجتمع، للأسف الشعوب العربية لا تحمل وعيًا بصريًّا كافيًا، والجمهور متأخر في ثقافته الفنية، والكثير لا يدرك الدور الحقيقي والفعّال للفنون، ويعتبرونها ترفًا ورفاهية وزيادة عن الحاجة، فتجد الكثير من مظاهر هذا التأخر، فالمعارض التشكيلية قليلة ومحدودة رغم ذلك تشتكي من قلة الزائرين، وعموم المشاهدين لا تجذبهم إلا الأعمال الكلاسيكية التقليدية ولا تعي الأساليب الحديثة. لكن الصحي في الأمر أن الفن في حالة من النضج والنمو المستمر، رغم أن هذا النمو لا يتوافق مع نمو الوعي الجمالي لدى العامة، وأرجو أن لا يقتصر دوري على إثراء الساحة بالمزيد من التجارب الفنية، وأن يتجاوز ذلك إلى المساهمة في صنع أجيال متذوقة للفن ومُقدرة له ومؤمنة أن التقدم والحضارة لا يكون إلا بالتكامل بين مجالات الإبداع كافة".
وتحدثت بو خمسين عمّا قامت به في عام 2016، وعن نشاطاتها للعام 2017: "لم يكن 2016 عامًا للعرض والتواصل مع العالم الخارجي بالنسبة لي، كان عامًا اقتربت فيه من نفسي وعملت فيه بجد لتطوير مهاراتي وتعميق رؤيتي الفنية والاهتمام بدراستي الأكاديمية. حتى انتهيت الآن من العمل على تجربة جديدة سأطرحها قريبًا، تعمدت فيها اختيار موضوعات أقل جدلًا وأكثر عمقًا وغموضًا، موضوعات غير متداولة وبعيدة عن أذهاننا في العادة، أحاول فيها التركيز على الجانب الروحي للمرأة، والتوسع أكثر في طرح مفاهيم تتعلق بفهمنا للحياة وإدراكنا للكون وعلاقة الإنسان مع الطبيعة، ومع أخيه الإنسان المختلف عنه للمساهمة في إرساء مبادئ الحب والتسامح والحياة المشتركة، كما أسعى لاستهداف جمهور جديد، وأخطط أن تكون المشاركات القادمة خارج الحدود المحلية، راجية من الله التوفيق".
أما عن نصائحها الأخيرة للفتيات اللواتي يرغبن بدخول عالم الفن التشكيلي فقالت: "إن السر الذي يميز أي فنان حقيقي هو الشغف، للفتيات ولغيرهن أقول: يجب أن تعشق عملك أولًا وأن لا ترضى بكل النتائج التي تصل إليها، ثانيًا الفنان الذي يستطيع جمع الاثنين معًا، وحده من يستطيع الصمود والمحافظة على نموه في مجال الفن. يجب على كل فنان ناشئ أن لا يعتمد على دراسته الأكاديمية فقط، الفن المعاصر أكثر تنوعًا بكثير مما سبق، لذا على الفنان الحديث العهد؛ أن يجرب كل شيء و يمزج تجاربه الفنية باهتماماته الأخرى لتصبح أكثر ثراءً، ويكوّن من خلالها خطًّا متفردًا جديدًا يميزه، ويعتمد على القراءة والبحث و الممارسة بجرأة؛ لصقل مهاراته وتنمية خبرته، عليه أن لا ينتظر دعمًا من أحد؛ بل يعمل على نفسه بنفسه حتى تنضج تجربته الفنية وتفرض قوتها، فالفن مشروع ذاتي في نهاية المطاف، ولا ينسى أبدًا أن يستمتع بكل المراحل".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة